الرهبانيّة في فكر أفراهاط واليوم

مقال نشر في مجلة ربّنوثا السنة التاسعة – العدد 29 – حزيران 2004

المقدمة

تظهر بدايات الرهبانية في حياة الجماعة المسيحية الاولى، فنقرأ في اعمال الرسل “وكان جماعة المؤمنين قلباً واحداً وروحاً واحداً لا يدعي احد منهم ملك ما يخصه بل يتشاركون في كل شئ لهم”[1] كما وتظهر في رسائل بولس عندما يتحدث عن البتولية التي ينصح بها ويحترمها لكنه لا يفرضها[2] ويذكرها الرسل في تعليمهم (الديداكي) اذ يقول بان البتول او البتولة يختاران برضاهما ذلك فيعرفان بهذا الاسم ولا توضع اليد عليه للبتولية، لان هذه الحالة ارادية شخصية[3].

وبعد ازدياد المسيحيين ودخول المجامع والصراعات العقائدية بدأت تختلف شيئاً فشيئاً الروحانية التي كانت تتحلى بها الجماعة المسيحية الاولى. وخاصةً بعد اعلان مرسوم ميلانو سنة (313) الذي سمح بالحرية الدينية، وأعاد الهدوء والسلام الى الكنيسة فانتشرت انتشاراً سريعاٍ، مما جعلها تتراخى احياناً وتنغمس في الرفاهية، فنتج داخلها تراخ في المستوى الروحي، لذلك اخذ بعض المؤمنين بالانسحاب من العالم والاعتكاف في صحاري او جبال داخل صوامع لعيش الشهادة بشكل اخر وكان من جملة النساك الاوائل الذين عرفوا مار انطونيوس المسمى ابو الرهبان وذلك لان الكثيرين سلكوا سلوكه واتخذوه لهم معلماً.

وبعد موت انطونيوس انتشرت الرهبانيّة في العالم المسيحي، لكن لم يبقَ اسلوب مار انطونيوس الطريقة الوحيدة، وانما ظهرت اشكال أخرى لممارسة الحياة الرهبانيّة. فكانت رهبانيّة مار باخوميس الذي اسس ادياراً للحياة المشتركة بدلاً من الحياة النسكية فاعتبر مؤسساً للحياة المشتركة. ثم يأتي قانون باسيليوس الذي يفضل الحياة المشتركة على النسكية لكن لا على طريقة اديرة باخوميوس حيث يعطي الاهمية للفقر والطاعة والتي يعتبرها اساس الحياة الرهبانيّة كما ويوضح في قانونه المبادئ التي تكون دليلاً للرؤساء والرهبان في تصرفاتهم ويعتبر باسيليوس اب الرهبانية اليونانية الشرقية.

اما في المشرق فهناك تقليد يعلق اصل الرهبانية في كنيسة المشرق بمجيء مار اوجين من مصر الى بلاد ما بين النهرين ومعه سبعون راهباً، الا ان هذه النظرة باتت مرفوضة من قبل بعض العلماء ويفترض ان يكون اصل الرهبانيّة خاصاً بالكنيسة المشرقية بدون تأثير من الخارج. وما نستنتجه من كتابات افراهاط في بيناته انه يتوجه الى جماعة سميت (بأبناء العهد) لكنها لا تتبع نمط حياة رهبانيّة كما نفهمها عند انطونيوس وباخوميوس…. وانما يتحدث عن المتوحدين والنساك الذين كانوا يختارون العيش فرادى او جماعات صغيرة (كالعذارى) بالزهد، في الايمان والمحبة والصوم والصلاة، ويقصدون الحياة المسيحية المثالية، على اساس عهد العماذ، وقبول الحياة المشتركة، في خدمة الكنيسة طقسيا واجتماعيا، للنضال الروحي من اجل المسيح العريس.

وإذ نستعرض باختصار تاريخ الحياة الرهبانية ليست غايتنا فقط بحثاً وتنقيباً عن الماضي لنخلده ونتغنى به، بقدر ما هي محاولة لاكتشاف الماضي للاستفادة منه في الحاضر واعطائه طابع يتماشى ويتناسب مع الثقافة المعاصرة. ففي مقالنا  هذا حاولنا طرح اسلوب حياة عاشته كنيستنا في ماض بعيد من خلال فكر أحد ابائها، ومن ثم اسلوب الحياة هذا في يومنا وهل من حاجة له اليوم.

الرهبانيّة في فكر افراهاط

في البينة (6) يوجه افراهاط تعليماته الى هؤلاء المتوحدين ابناء العهد، الى العذارى والقديسين. وتعتبر هذه الارشادات والنصائح قاعدة حياة لكل رجل وكل امرأة تكرسا لخدمة الكنيسة[4].

وجماعة بني وبنات العهد هذه مؤلفة من مؤمنين معمدين، من كلا الجنسين، كانوا يسكنون عادة مع ذويهم، انما مكرسين حياتهم للتأمل والصلاة والجهاد الروحي والخدمة واعمال الرحمة والمحبة، عازفين عن الزواج وملاذ الحياة. ثم ما لبثوا ان اخذوا ينتظمون جماعات صغيرة متجانسة او تضمهم كنيسة الرعية، ويقع واجب تهذيب هؤلاء المكرسين على الرعاة. اما تسميتهم ببني وبنات العهد، فمن اللفظة (قياما) التي تعني العهد، يقوم به المؤمن ساعة العماذ، ويشير ايضا الى وجوب السهر الروحي الدائم استعدادا لاستقبال الرب، الختن السماوي، كما في مثل العذارى (متى 25: 1-3).

التوبة كخطوة اولى

يشبه افراهاط التوبة بالنهوض من النوم فيوجه نداءه للاستيقاظ في هذا الزمان ورفع القلوب مع الايدي الى السماء، وانتظار الرب كي يجدنا مستيقظين. ويستقي كلامه في التوبة من الانجيل فهو بعد كل جملة وعبارة يستشهد بآية من الانجيل.

يرى افراهاط بأن الانسان يحمل عبء خطيئة آدم فهو يعيش واقع الخطيئة ببعده عن الله. فيوجه نداءه للتوبة لمن يشده الحنين الى حالة البرارة والسعادة. والتوبة ليست عملاً روحياً او نفسياً بل هي ايضاً تعبير حياتي يصدر عن الانسان بكامل كيانه. من هنا كانت الممارسات العديدة للتعبير عن حالة التوبة هذه كالبكاء ولبس المسوح والسهر والصلاة المتواصلة.

فيهتم كل الذين يتبعون نظام افراهاط في عيشه بالتفتيش عن الحياة الابدية. يتنكرون لحياة الارض الزائلة ويعملون من اجل حياة الملكوت الدائمة. عندهم حنين دائم للحالة الفردوسية وهم على الارض في حالة تشرد دائم لذا يتنكرون في حياتهم لكل  ما نتج من جراء خطيئة آدم ويحاولون ان يلجوا باب الفردوس من جديد مع المسيح وبواسطته على مثال لص اليمين التائب الى الله.

الجهاد الروحي

الذين يسعون للتقدم في الحياة الروحية يدركون اكثر من غيرهم ضعف الطبيعة البشرية، هذا الضعف الذي يعيق مسيرتهم ويكاد يوصلهم الى الرأس. لذلك يعطي افراهاط في بينته عدة توجيهات للمكرس ليستطيع ان يجند كل قواه لتخطي تعثرات هذا الضعف، مستعملاً في ذلك جميع الاسلحة الروحية الممكنة. فإذا كان لديه جناحان فليطر كي لا تصله السهام التي يرميه بها. وعندما يزحف عليهم برغبة الأكل يغلبونه بالصوم، وإن اراد ان يدخل عليهم خلال النوم يستيقظون ويسهرون ويرتلون ويصلون وإن جذبهم بالمقتنيات وهبوها للفقراء، وإن دخل عليهم كشيء حلو لا يذوقونه لانهم يعرفون أنه مر، وإن الهبهم بشهوة حواء يعيشون وحدهم لا مع بنات حواء.

فيدخل المكرس في العراك مهما اشتد. ويتحدى الشيطان ويكشف له كل حيله المخادعة متمثلاً بيسوع الذي اعطى اتباعه القدرة على مقاومته والانتصار عليه بصليبه المقدس.

المرأة

يعتقد افاهاط بأن المرأة هي سلاح العدو منذ البدء وبها يكون حتى النهاية. ويستشهد بالكتاب المقدس ودور المرأة السلبي في الكثير من المواقف. فبسببها كما يقول حلت لعنة الناموس وبسببها جاء الوعد بالموت فتلد البنين بالاوجاع وتسلمهم للموت وبسببها لعنت الارض فانبتت الاشواك والحسك. وبهذا يرى افراهاط ان من الاجدر بهؤلاء الرهبان ان يعيشوا وحدهم وإن شعروا بالضيق، فهم في مقدس العلي ويفرحهم الله وحده. وفي المقدس حسب رأيه لا يوجد ذكر او انثى ولا عبد او حر.

اما الراهبات فسوف يتخلصن من عقاب بنات حواء بتبتلهن، فان كان عرس بنات حواء يدوم سبعة ايام فعرسهن يكون للابد وان كانت زينة حواء صوفاً، يتلف ويبلى، فلباس البتولات لا يفسد وإن كانت الشيخوخة هي مشكلة بنات حواء، فجمال الراهبات سيتجدد يوم القيامة.

يسوع المثال

يدعو افراهاط المكرس الى التمثل بالمسيح والاقتداء به فيقول “لنبغض انفسنا ولنحب المسيح، كما هو احبنا وبذل ذاته لأجلنا. لنكن غرباء عن هذا العالم مثل المسيح الذي لم ينتم الى العالم” (البينة 6/9) فالمسيح اذا هو مثال أول للمكرس في سعيه نحو الملكوت ففي حياته مارس التقشف والصوم والصلاة في الاربعين يوماً التي قضاها في الصحراء، وهو الذي دعا الناس الى التوبة والاستعداد لملكوت الله، كما انه دعا من يريد ان يتبعه الى الزهد في

النفس وحمل الصليب واتباعه، وفي كلامه اشار الى حياة التخلي عن المقتنيات التي مارسها طوال زمن بشارته، ونعلم ايضاً بأنه كان يمضي اوقاتاً كثيرة في العزلة والصلاة… فهذه كلها تبدو اساساً صالحاً لما ابتغاه المكرسون في بحثهم عن حياة الكمال المسيحي اقتداء بالمسيح كما يقول افراهاط.

الرهبانيّة اليوم 

استمرت الحياة الرهبانيّة ازمنة مختلفة، منها كانت في ازدهار وتقدم واخرى في انحطاط وتخلف. ونحن اليوم في احد الازمنة التي تشهد انفتاحاً كبيراً وتطوراً واسعاً في كافة العلوم الدينية والعلمية. فلا شك ان الحياة الرهبانية تواكب هذا الانفتاح وتعمل بكل جهدها لتكشف دورها وهويتها لعالم اليوم (تعرضت الحياة الرهبانيّة وهي في صميم الكنيسة وحاضرة في العالم، لتبدلات عميقة لا يمكن ان نفهمها الا على ضوء الاحداث التي عصفت في الكنيسة وفي المجتمع خلال العقود الاخيرة. اذ عرف عصرنا الحاضر تحولات متسارعة لها تاثيرها الشديد على هوية الحياة المكرسة وتوجهاتها الرسولية)[5].

تعدد الاشكال وتوجه نحو الخارج

نستطيع اليوم تمييز الكثير من انماط واشكال الحياة الرهبانيّة فهناك رهبنات مختصة بالعلوم اللاهوتية والانسانية، ورهبنات تهتم بالمرضى، وهناك من تهتم بالمعاقين والمتخلفين واخرى بالفقراء وهناك رهبنات علمانية تعمل في مجالات عدة في الرعاية. والكثير والكثير من الاشكال وأغلبها متوجه نحو العالم. فبعد ان كانت الديارات خارج المدن منعزلة عن العالم أصبحت اليوم داخل المدن ووسط العالم، وبعد ان كانت الديارات حصناً لتقديس الذات وخلاص النفس، اصبحت محطات للانطلاق لتقديس الاخرين وخلاص النفوس.

أما النذورات الرهبانيّة

بمفهوم اليوم تختلف كثيراً عن الامس فمثلاً الطاعة كانت سابقاً اوامر قطعية لا تقبل النقاش، تفترض اليوم وجود مقدار كاف من الاتزان لا من جهة من يطيع فقط، بل من جهة من يأمر ايضاً.

والفقر الذي كان على مستوى الامتلاك المادي أصبح اليوم ليس سوى وسيلة ومرحلة لبلوغ الفقر الكياني وهو يقوم في الاساس على التجرد من الأنا.

أما العفة فهي ليست اليوم رفض الحب وكل ما هو جميل وحسن؛ أو رفض المرأة، لكنها  محاولة لتخطي كل شيء لوجود حب أقوى. حب لا يتخطى الحب الاول فقط بل يبتلعه ويستوعبه.

ان الرهبانيّة اليوم لا تستطيع ان تحقق غايتها في عيش يسوع المسيح واستحضار الملكوت على الارض ما لم تتوجه بكليتها نحو العالم نحو الاخرين وخاصة اذا (تبين لها ان الكثيرين منهم لا يعرفون ملئ تجلي حب الله في المسيح، فلا يسوغ ان تبقى في لا مبالاة)[6] فيقع عليها واجب اشباع الاخرين من خبز الحياة وارواء عطشهم من ينابيع النعمة.

خاتمة

(لا تستطيع الكنيسة ولا بأي وجه من الوجوه ان تتخلى عن الحياة المكرسة وذلك لأن هذه الحياة تعبر بطريقة بليغة عن طبيعتها العرسية الحميمية. بفضلها تكتسب بشارة الانجيل في العالم كله انطلاقة جديدة وعزماً جديداً)[7].

فالحياة الرهبانية ليست حياة على الهامش كما يظن البعض وليست هروباً من معترك الحياة وواقعها، وانما هي حركة من الوحدة الى العزلة من خلالها يسعى الاعضاء الى الاعماق ليجدوا فيها قوى الروح الخفية هذه القوى ليست شيئاً فريداً يملكه المكرسون بل هي عطية يشركون فيها كل البشر ولهذا “يكونون في العالم ولكنهم ليسوا منه”.

الأخ نشوان جورج الراهب


[1] اعمال 4/32

[2]  1كورنتس 7/25-30

[3]  الأبوان جورج نصور ويوحنا ثابت، اقدم النصوص المسيحية، الديداكي، سلسلة النصوص الليتورجية، في المتبتلين والبتولات، ص173.

[4] بينات افراهاط كتبها خلال السنوات 336- 344. للمزيد راجع الخوري بولس الفغالي، افراهاط الحكيم الفارسي، المقالات، دار المشرق- بيروت، 1986.

[5] سينودس اساقفة العالم المنعقد بروما عام 1994، في الحياة المكرسة.

[6] البابا يوحنا بولس الثاني، في الحياة المكرسة، رسالة عامة، 1996، ص146.

[7] يوحنا بولس الثاني، الحياة المكرسة…