العائلة ووسائل الإعلام
المقدمة
منذ النصف الأول من الثمانينات أثبتت دراسات بحثيّة عن العائلة وديناميكيات وجودها وتواصلها الإجتماعي، من خلال الإنتقال من “النموذج التنظيمي” إلى “النموذج التفسيري”.
إن الغاية والمعنى من هذا الإنتقال هو التغلب على نظريّة “التأثيرات القويّة”، أي إتخاذ وجهة نظر أكثر إعتدالاً فيما يتعلق بفرضيّة إنتشار وسائل الإعلام وقساوة تأثيرها على المشاهد، إلى جانب الإهتمام الملحوظ والمتزايد لعمليّات فك وفهم الرسائل التي تنشرها وسائل التواصل الإجتماعي، حيث أدت هذه الوسائل إلى تأثيرات قويّة في عملها الإقتصادي والإجتماعي مما أدى إلى تغيير البنيّة الإجتماعيّة بشكل عام من خلال المُنتَج المقدم للمشاهد (المتلقي) لهذه الوسائل.
تمت دراسة هذا الأخير (المتلقي) مرةً كفرد لوحده، بملفه النفسي الخاص، بأذواقه، وميولاته، وخصوصياته، ثم كموضوع إجتماعي، بمكانته، والمستوى الثقافي في شبكة واحدة أو أكثر من العلاقات التي تحدد طريقته في الإتصال بوسائل الإعلام بشكل عام.
في هذا السياق، تم تحديد الانتباه إلى العائلة، بإعتبارها المجموعة المرجعيّة والرئيسة لأولئك الذين يستخدمونها والسياق “الطبيعي” لفعل الإستهلاك.

ثلاث وجهات نظر دراسية
فيما يتعلق بموضوع العلاقة بين وسائل الإعلام والعائلة، أُتبِعت ثلاث وجهات نظر بحثيّة، هي:
- البحث الذي يعتبر العائلة “موضوعًا” للحضور ومعياراً لإختبار مدى مصداقيّة الرسائل التي تنشرها وسائل الإعلام ومدى قدرتها على الإقناع؛
- البحث الذي يتعامل مع العائلة بإعتبارها “مكانًا” للإستخدام، وبيئة ماديّة وعلائقيّة تستضيف الإستهلاك؛
- البحث الذي يتعامل مع العائلة بإعتبارها “موضوعًا” للإستهلاك ومحطة مميزة ومستخدمًا نشطًا لمنتجات الوسائط1.
العائلة كـ “موضوع” للحضور
الموضوع الأول من البحث هو الذي يحافظ على أقرب الروابط مع النموذج التنظيمي، هو الجوهر الرئيس للتفكير وهو تحليل التأثيرات التي تمارسها حضور وسائل الإعلام (خاصةً تلك االتي تهم العائلة) 2.
الفكرة الأساسية من هذا البحث هي أن وسائل الإعلام تدخل في علاقة مع العائلة من خلال حضورها وأن هذه الأخيرة معرضة لتأثير هذه الوسائل وهي متاحة دائماً لإكتساب نماذج الحياة والسلوك التي تقترحها هذه الوسائل.
في هذا السياق، تصبح المشكلة المركزيّة هي تحديد درجة التطابق بين الواقع وحضور العائلة التي تنتجها وتنشرها وسائل التواصل الإجتماعي.
إن الرأي العام في هذا البحث هو أن وسائل الإعلام تكرر إعطاء صورة مشوهة عن العائلة3. من ناحية، يتطلب هنا توحيد إجراءات الإنتاج الإعلامي وتبسيط ديناميكيات العائلة وتقليل تنوع التشابك الذي يتطور بين مكونات النواة إلى عدد محدود من التكوينات؛ ومن ناحية أخرى، فإن الحاجة إلى تعبئة منتج ممتع يجبرنا على جعل الواقع المحلي مذهلاً، مع التركيز على نقاط التحول اللافتة للنظر ولحظات الأزمات والتمزق بدلاً من التركيز على عادة بناء الطرق اليوميّة لإدارة العلاقات4.

العائلة كـ “مكان” للانتاج
يبدأ الموضوع الثاني من البحث بإدراك الأهميّة الحاسمة للسياق في ديناميكيات الإستهلاك. إذ تعتبر العائلة، المحطة المميزة للتواصل الإجتماعي والمكان الطبيعي للإستهلاك، وهي مسؤولة عن الأشكال التي تتخذها ممارسات الإستخدام.
إن الأبحاث التي أجريت في هذا الموضوع قد حددت أربعة جوانب من البنيّة العائليّة والتي تؤثر بشكل كبير على إستهلاك وسائل الإعلام، وهي (التكوين المكاني، التنظيم الإقتصادي، القصة الشخصيّة والتنشئة الأولى، الروابط العاطفيّة والعلاقات بين أفراد الأسرة).
يؤثر الجانبان الأولان بشكل رئيس على درجة الوصول إلى وسائل التواصل الإجتماعي، أي إتساع وتنظيم المساحات العائليّة جنبًا إلى جنب مع الإمكانات الإقتصادية، أي أنهم يحددان كلاً من تواتر التواصل وكثافة إستخدام الوسائط.
من ناحية أخرى، يحدد التاريخ والثقافة والعلاقات العاطفيّة وشبكات العلاقات التي تتشابك بين المكونات الأولى المحليّة، درجة قابليّة إستخدام وسائل التواصل الإجتماعي، أي أن العائلة هي مكان التلمذة التكنولوجيّة، أي (البيئة) حيث يتعلم المشاركون إستخدام الوسائط، وفي نفس الوقت هي المساحة التي يتم فيها في المقام الأول إستخدام الموارد التي يوفرها جهاز التواصل الإجتماعي (المعرفة والقيم والنماذج العلائقيّة) 5.
في هذا السياق، تأخذ العلاقة بين وسائل الإعلام والعائلة تكوينًا أكثر تعقيدًا، فالعائلة ليست موضوع حضور وسائل الإعلام فقط، ولا هي محطة إتصال سلبيّة كما يقال، ولكنها عامل نشط لممارسات المستهلك.

العائلة كـ “موضوع” المستهلك
أخيرًا، تغذي فكرة العائلة باعتبارها “موضوعًا” سلسلة من الأبحاث التي إتخذت على مر السنين أبعادًا فائقة الأهمية. المبدأ الذي يقوم عليه البحث المدرج في هذا المجال هو أن العائلة، باعتبارها شبكة معقدة من العلاقات الداخليّة (العلاقات بين أعضاء العائلة الواحدة) والخارجية (العلاقة بين العائلة والعمل، والمدرسة، والسياق المؤسساتي…)، لذا تعمل كـ “مصفاة” فيما يتعلق بالرسائل التي تنتجها وتنشرها وسائل الإعلام6.
نذكر هنا مبحثان رئيسيان في هذا السياق: المبحث الأول يحلل الروابط بين الهويّة الإجتماعيّة للعائلة (الحالة، المستوى الثقافي، درجة الصراع الداخلي …) وموقفها من المحتوى المنشور، حيث تُنشئ المساهمات الواردة في هذا السياق سلسلة من العلاقات، على سبيل المثال، بين الخلفيّة الإجتماعيّة للعائلة وإختيار بعض الوسائط أو بين حالة الصراع القائم بين مكوناته والإستخدامات المعينة لوسائل الإعلام7. يتميز المبحث الثاني بالتركيز على تعقيد العلاقات العائليّة الداخليّة ودورها في تحديد طرائق ونتائج الإستهلاك، وهذا البحث هو حديث ولا يزال لديه عدد قليل من المساهمات في العالم8، ويركز الإهتمام على الديناميكيات (الأدوار، وأشكال الإتصال، وآليات الحوار …) التي يتم تفعيلها داخل العائلة والتي تنعكس في إدارة وسائل الإعلام. لا تعتمد أساليب الإستهلاك على المظهر الإجتماعي والديموغرافي للعائلة، ولكن على التكوين العلائقي والتفاعلات التي تحدث بين أفرادها9.
يتم تكوين العلاقة بين وسائل الإعلام والعائلة كتفاعل معقد يرى العائلة منخرطة في الحوار بخصوص الوقت والإهتمام الذي يجب أن تعطيه لوسائل الإعلام وإستلام رسائلها وتحويلها إلى موارد (من المعرفة، والعلاقة) للاستثمار والإنفاق في الحياة اليومية10.
من وجهة النظريّة “التفسيريّة”، في الواقع، ينتقل الإهتمام بالكامل من تقييم التأثيرات، إلى تحليل التفاعلات التي يتم تنشيطها بين العائلة ووسائل الإعلام. في الوقت نفسه، يتم إستبدال مفهوم الإستهلاك بإعتباره النقل الخطي للمعلومات من المصدر إلى المتلقي بمفهومه الإستهلاكي كمجموعة معقدة من الممارسات التفسيريّة التي تتجاوز لحظة الإستخدام وتمتد إلى جميع الأنشطة التي تشارك فيها العائلة يوميًا.

الخاتمة
على الرغم من أن صياغة وجهات البحث الثلاث قد أتاحت حجمًا كبيرًا من البيانات، إلا أن العديد من الأسئلة لا تزال قائمة حول العلاقات بين العائلة ووسائل الإعلام، بعضها بسبب تعقيد الكائن البشري، والبعض الآخر عن الكليشيهات العديدة المتداولة حول الموضوع وكثرة الجدالات (والأكثر انتشارًا هو الاقتناع الراسخ بعدم قدرة العائلة على وقف تهور وسائل الإعلام).
إن الأوقات والأماكن التي تدخل وسائل الإعلام في الحياة المنزلية، وفعالية الاستراتيجيات “الدفاعيّة” التي تنشطها العائلة، وطرق تحويل المقترحات الإعلامية إلى موارد وإستخدامها الملموس في الروتين اليومي، تظل العلاقات بين الشبكات الاجتماعية الممتدة والشبكات العائليّة وإستخدام الوسائط كلها أسئلة مفتوحة.
إن الإهتمام بظواهر العولمة والمشاكل المعقدة المرتبطة بها (الإستعمار الثقافي، فقدان الهويّة،..) يدفع في الواقع إلى تحويل محور التفكير من العائلة إلى المجتمع، العِرق، الأمّة، مما يعزز الاتجاه الذي تم إستنكاره بالفعل في بداية توسيع وحدات التحليل والعمل تدريجياً على شرائح أجتماعية أكبر وأكثر تعقيدًا.
الأب يوسف يونو عجم الراهب
المصادر
- Lindlof Thomas R. (ed.), Natural audiences. Qualitative research of media uses and effects, Ablex Publishing Corporation, Norwood (NJ) 1987.
- Wolf Mauro, Gli effetti sociali dei media, Bompiani, Milano 1992.
- Casetti Francesco – Piotti Patrizia, La coppia esposta. Contenuti e modi della rappresentazione della coppia in televisione in “Famiglia Oggi”, (1990) 47, pp.60-78.
- Giaccardi Chiara – Eugeni Ruggero, Famiglia e mass media. Per un’etica della comunicazione mediale, Vita e Pensiero, Milano 1995.
- Gonzalez Gaitano Norberto, Famiglia e media. Il detto e il non detto, EDUSC, Roma 2008.
- Lull James, Inside family viewing. Etnographic research on television’s audiences, Routledge, London 1990.
- Acquaviva Sabino (ed.), Mass media, famiglia e trasformazioni sociali, Sansoni, Firenze 1980; Donati Pierpaolo, La famiglia nella società informatizzata in Id., La famiglia nella società relazionale. Nuove reti e nuove regole, Franco Angeli, Milano 1991.
- Casetti Francesco-Fanchi Mariagrazia – Galimberti Carlo, Comunicazione sociale, televisione, famiglia, Vita e Pensiero, Milano 1995.
- Mancini Paolo, Guardando il telegiornale. Per una etnografia del consumo televisivo, Nuova ERI, Torino 1991; Moores Shaun, Il consumo dei media. Un approccio etnografico, il Mulino, Bologna 1998.
- Silverstone Roger, Televisione e vita quotidiana, Il Mulino, Bologna 2000.