المنهجيّة في التثقيف المسيحي
مقال نشر في مجلة ربّنوثا السنة التاسعة – العدد 28 – آذار 2004
أولا: يكشف الله عن ذاته في طريقة تربويّة
تبنّى آباء الكنيسة منهجية سموّها: التنشئة الى سرّالمسيح: من خلال الكتاب المقدس بعهديه: القديم والجديد. فالتثقيف المسيحي في الدرجة الاولى هو كتابي Catechese Biblique ومبدأ هذا التعليم يرتكز على الجماعة المؤمنة: الكنيسة هي الجماعة المصغية الى كلام الله، وتجيب بإيمان الى هذا الصوت، مجتمعة حول المسيح، كلمة الله المتجسد، وهذه الجماعة مدعوة الى الاصغاء. هذا الاعلان لكلمة الله في الجماعة، يُعدُّ خدمة نبوّية، تحت ارشاد السلطة الكنسية والتقليد الرسولي.
- المسيح القائم في المجد: يحتل قلب الكتاب المقدس. ينقل المربي بُشرى إنجيلية: المسيح حي. وكما عمل مع تلميذي عماوس: بدأ من موسى وجميع الأنبياء يُفسّر لهما في جميع الكتب ما يختص به(لوقا24/27) ويضيف النص: “وحينئذٍ فتح المسيح أذهانهم ليفهموا الكتب” (لوقا 24/ 45). نستشف من هذا الاسلوب التربوي: ليس اعطاء تاريخ مقدّس “بل المسيح الحي مركز تاريخ الخلاص”.
- المستمعون الـى كلام الله: إن كلمة الله ليست مفهومة مباشرة من كل فئات المتعلمين: لابدَّ من معاينة أمرين: ذهنية المستمعين للكلام، وعمل الروح القدس في قلوبهم.
ما يخص الذهنية لدى المتعلمين تخضع للحضارة السائدة: من هنا، يجب الاطلاع على الحياة الاجتماعية للمحيط. وثمة ضرورة دراسة لغة الكتاب المقدس، ليكون مفهوماً من الانسان المعاصر. ونكتشف ضرورة تربوية: يتكلم الله في الاسفار المقدسة، ليس من خلال أفكار بل في أفعال وحوادث. يكشف الكتاب المقدس عن حدث الله في تاريخ الانسان والحدث الكبير الذي يختصر كل الاحداث الكتابية هو المسيح. وإذا حاول المربي أن يدعو المتعلمين الى الاحتكاك الشخصي مع الآب، فيكون ذلك من خلال حوادث حياتهم. والحال، يكشف الكتاب المقدس ان معنى حوادث حياتنا تتنور بحضور الرب القائم في المجد، وهو ربّ حياتنا. نستعين بأساليب يسوع التربوية وهو يثقف تلاميذه بلغة الامثال.
كما يكلم الجمهور الذي يلتف حوله، ويستخدم في لغته صوراً: الراعي، مأدبة العرس، الماء الحيّ، النور… الخ. كانت هذه الصور محملة بمعاني وردت في الأسفار المقدسة. لذا، ينبغي علينا أن نقرأ بشغف الكتاب المقدس، على ضوء المسيح القائم في المجد.
- نقل الكلام: وفي هذا الحقل نتفنن في “التكيف”، نتجنب أن نحكي حوادث الكتاب المقدس مجرد “تاريخ مقدس” ولا نتخذها براهين دفاعية، أو حوادث ذات صبغة أخلاقية. بل أن نقرأ حوادثنا نحن على ضوء الحوادث الخلاصية في الماضي. نقرأ قصة التحرير الفصحي في زمن موسى، على ضوء فصحنا الجديد: المسيح المخلص. أما الفصح القديم، فلم يكن الا صورة رمزية، للصليب والقيامة.
إن عمل الروح القدس يلعب دوراً أساسياً في قلوب المستمعين لفهم حدث المسيح. وفي هذا الشكل من التربية المسيحية نشير الى خبرة تلميذي عماوس: “أما كان قلبنا متقداً في صدرنا، حين كان يحدثنا في الطريق ويشرح لنا الكتب؟” (لوقا 24/32)، فلابُد أن يكون المربي شاهداً للمسيح الممجد. نتبع هنا التقليد الوارد في الكنيسة الشرقية: ايفاكر Evacre يخاطب المربي قائلاً: إن كنت لاهوتيا عليك أن تصلّي، ولئن صليت، فأنت لاهوتي حقاً”.
ثانياً- تثقيف مسيحي ليتورجي
- إن الرب يسوع المسيح الممّجد الذي يكشف عنه الكتاب المقدس: إنتقل من حياة ارضية الى سماوية. فلا نصل إليه إلا بالإيمان، هذا الإيمان نعبّر عنه بالعلامات التي نعبر عنها بالليتورجيا. والليتورجيا نابعة من الكنيسة التي هي سرّ المسيح الممجد بالقيامة، فننال تنشئة مسيحية من خلال الاسرار: إن بنوتنا في العهد الجديد تتّسم بطابع السرّ Sacrement. لذا يكون تعليمنا وتثقيفنا المسيحي ليتورجيا: ومعناها العمل الشعبي تحت ارشاد الروح القدس. فالكنيسة تجعل المسيح الممجد حاضراً بيننا في الفصح الأفخارستي. وتاريخ الخلاص يتواصل في الاسرار استخدام آباء الكنيسة الكبار التنشئة المسيحية من خلال الأسرار: من أمثال: قورلس الاورشليمي، افرام، يوحنا فم الذهب، امبروسيوس، نرساي، تيودور المصيصي.
- التثقيف من خلال الأسرار: إن أسلوب التثقيف المسيحي عند هؤلاء الآباء إتسم بطابع الدخول في الأسرار الثلاثة: العماد، الميرون، الافخارستيا.وفي هذا التثقيف يُعطى الجسد الدور الكبير من خلال دراسة نفسية (Psychologie) بحسب مراحل العمر، وذهنية المستمعين: الصغار، الصبيان، الشباب والبالغين. وللروح القدس دور في اكتشاف المعنى الجديد من خلال الحواس: رأى، أصغى، لمس، ذاق، ومن خلال وسائل ايضاح سمعية بصرية، ومن خلال الرتب والاحتفالات الطقسية.
- تربية ليتورجية: علينا ببعض الملاحظات في الأسلوب التربوي الليتورجي: نتخذ أسلوباً تربويا في عرض السرّ المسيحاني من خلال تاريخ الخلاص الوارد في أسفار الكتب المقدسة، فنعلن إيماننا (نؤمن) طوال السنة الليتورجية. فيكون تثقيفنا عقائديا، كتابيا ليتورجيا وحياتيا. ونتبع في هذه التنشئة السنة الطقسية: من المجيء الى المجيء الثاني للمسيح في المجد. نعطي في تعليمنا دور الاحتفالات، لا سيّما في تنشئة الاطفال للتناول الاول. بحضور الجماعة في كنيسة الرعية يوم الاحد.
ثالثاّ- مبادئ لتثقيف مسيحي حياتي
إن مبدأ هذه التنشئة المسيحية يستند الى الكنيسة كجماعة مُحبة، تعمل تحت ارشاد الروح القدس الذي أرسله المسيح الممجد من عند الآب. يتم هذا التثقيف في خدمة راعوية، على مثال المسيح الراعي الصالح. كل مسيحي مسؤول عن نشر المحبة في حياته، وفي حياة أخوية في العالم، هذه الخدمة الراعوية تطبق لدى المسيحيين في علامة الوحدة التي يترأسها الاسقف، وبين الاساقفة يترأسها عند الكاثوليك أسقف روما: البابا.
- المسيح القائم، قلب الحياة المسيحية: نرى في الشكل في التنشئة الحياتية وحدة تصميم الله الذي درسناه في الكتاب المقدس والليتورجيا. انه المسيح فصحنا نعيشه في سر الصليب والقيامة، يشع على الحياة المسيحية. نجعل سر المسيح الممجد آنيا في حياتنا الحاضرة. وإن جوهر التثقيف المسيحي، يرجعنا الى مار بولس الذي يختتم كل رسائله: “علينا ان نموت مع المسيح لكي نقوم معه. نموت كل شكل من الانانية، والانسان العتيق وشهواته، وننتقل معه الى حياة جديدة.
- المتعلّم كائن روحاني: يبدو هذا النوع من التثقيف المسيحي بطولياً ومثاليا لغير المسيحيين. ولكنه يستند على التحول الجذري الذي يعمله الروح القدس في قلب المتعلم. والمسيحي المعمد الذي نال موهبة الروح في الميرون يكتشف المعنى الروحي الذي إكتسبه في سر العماد، والأسرار الأخرى. يهتم المربي في تنشئته على الحياة الروحية، والصلاة التأملية التي تؤدي الى حياة النضوج المسيحي.
- التربية الروحية في الحياة: يقود المربي تلميذه الـى اكتساب الحياة الروحية الواردة في رسالة بولس الـى روما (8/ 16- 17). نشير الى ملاحظتين مهمتين: الأولى تقود المتعلم الى اقتباس منهجية مراجعة الحياة: “أنظر، أحكم وأعمل” نرى في مشاكل الحياة التي نتعرض لها حسب مراحل العمر أو المحيط في حياة المتعلمين دعوة الى طلب انوار الروح القدس. الملاحظة الثانية: تستند الى الروحية في اسلوب التعليم: فالتثقيف الحقيقي يستند الى إنارة الضمير، في تربية متسمة بروح الحرية لاولاد الله بعيدة عن روح العبودية، والتخلص من عقدة الشعور بالذنب. فالتثقيف المسيحي على ضوء الشريعة الإنجيلية يهتم بتنشئة اتخاذ المسؤولية، وروح الغفران المبني على سر التوبة والمصالحة.
الأب يوسف عتيشا الدومنيكي