كيف نوجه حياتنا في ضوء كلام الله
مقال نشر في مجلة ربّنوثا السنة التاسعة – العدد 30 – أيلول 2004
نكتشف في بعض النصوص من الكتب المقدسة مواضيع فيها القوة والحيوية لنُسيّر على ضوئها حياتنا المسيحية. يُعَدّ حادث الشاب الغني (مرقس10/ 17-21، متى 19/ 16-22) من النصوص الكبرى التي نجد فيه تعليما فريدا يختصر محتوى الأخلاق المسيحية؛ بالاضافة الى ذلك، يحمل النص صفات مميزة للطريقة الإنجيلية التي ينبغي علينا أن نسلكها. إليك هذا التفسير الحر، يدمج فيه كلا النصين الواردين في إنجيل متى ومرقس معا.
يدور الموضوع حول رجل مجهول الهوية وماضي حياته. هذا الرجل يُمثّل كل شخص يداخله البحث الجدي عن معنى حياته. والمرء المهتم بالأخلاق يجد نفسه مندمجا في المدرسة البشرية متعددة الحضارات، ويغرف من معين الحضارات التي ظهرت في أزمنة مختلفة وتختلف عن حضارتنا المعاصرة، تعليما من شأنه أن يساعده على عيش حياة أفضل.
الرواية بحسب إنجيل متى تُلمّح الى شخص شاب، أما مرقس فلا يذكر شيئا عن ذلك. يتجه الشخص نحو يسوع راكضا، وهذه إشارة الى موقف قلما يلائم سنّ البلوغ، وأقل منه الشيخوخة. يداخله حماس يتسم بنفاذ الصبر، وهو على عجل من أمره. ولا بد أنه يعيش منذ زمن هذه الحالة، كما سوف ترد إشارة في النص الى ذلك لاحقا، إنه يبحث بجدية عن القيام بعمل الخير، ليوجه حياته في مسيرة حقيقية نحو الأفضل.
لقد أدرك الشاب أنه لن يصل وحده الى اكتشاف معنى لحياته. لأن علم الأخلاق لا يكمن في مسألة شخص يحاسب ذاته فحسب، إنما تشمل أيضا تَدخّل الآخر. وهذا الآخر يُمثّل لكل واحد منا منعطفا لا بدّ من الولوج فيه.
وقد صرّح أحد الفلاسفة المعاصرين(Emmanuel Le’vinas) أن وجه الآخر يسبقنا دائما في الوجود، وهذا ما يشير الى موقف الشاب الماثل أمام يسوع راكعا، مضيفا الى ذلك، لقب الوقار الى شخص يسوع.
أيها المعلم الصالح
هاتان الكلمتان في غاية الاختصار تشيران الى المعاني الكثيرة، إن لقب “المعلم” يُعزّز صيت يسوع المنتشر بين الناس. ونحن نعلم، من جهة أخرى أن يسوع كان قد اسس له شكلا من المدرسة الربينية؛ وكان يحمل ثوبا طويلا أهدابه تُذكّر بوصايا الشريعة وإذ يكرم الشاب يسوع بهذا اللقب، لم يكن يكتفي بحسب تقليد متبع؛ إنما كان يشعر بحاجة الى شخص أكثر خبرة، وأكثر حكمة، عالم خبير ليكتشف على يده طرق عمل الخير. لأن علم الأخلاق غير قابل للاستنباط، وإن الشخص الذي يدعي بصياغة أخلاق خاصة به، يُعدّ احمقا.
ثمة خبرات واكتشافات سابقة حُفظت كإرث تقدم له. هذا الإرث يُعدّ، بحد ذاته تقدما، يجب على المرء قبوله بروح التواضع والاستفادة منه في هضمه، ثم الانطلاق الى المزيد من التقدم.
ماذا أعمل…؟
إن تساؤل الشاب هذا يحتوي على تعريف لعلم الأخلاق انطلاقا من هاتين الكلمتين، العمل والواجب.
العمل: إن علم الأخلاق، موجه كله الى العمل. لاشك أن فيه قسما نظريا، لكن هذا القسم يهدف الى انارة القرار الواقعي لدى اصدار الحكم في قيمة الأفعال البشرية.
الواجب: كما يعرف علم الأخلاق كشكل من العلم يخص أداء الواجب. هذا التعريف يبدو لنا قابلا للنقاش، لأنه يشير الى نموذج تاريخي في أوربا منذ ظهوره في القرن السادس عشر، ونادى به الفيلسوف الألماني (عمانوئيل كانت)، يهدف الى تطبيق سلوك الفرد الى القانون، بهدف الاعتناء الذاتي لدى تطبيق القانون، مع ذلك، لا يوجد علم الأخلاق، دون التمسك بتطبيق الواجب. لكن إذا فُرِضَ الواجب على الإنسان، فلأنه حر، أما الشجرة والحيوان، فلا تعرف معنى الواجب، لأنها مقيدة بمنهجية محددة. أما الإنسان الذي يتصرف تحت تأثير الخوف والإكراه، ومحروم من الإرادة، فلن يكون حرا مطلقا.
لأرث الحياة الأبدية
إن كان لعلم الأخلاق دعوة شمولية موجهة الى كل البشر، إلا أن التعبير عنه يتمّ داخل حضارة معينة. فالشاب يستفسر من يسوع بكونه يهودي يحظى بإرث الآباء بشأن العهد الذي قُدّم لإبراهيم.
أما العبارة :”الحياة الأبدية” فهي غنية بألف معنى: الكمال، الأبدية العيش بالقرب من الله، المشاركة بخيراته، وهي كلمة تشير الى الرغبات البشرية، وامتلاك المواعيد الإلهية “السعادة”. وبحسب الكتاب المقدس، يهدف علم الأخلاق الى امتلاك السعادة التي تدعى التطويبات في تقليد الكنيسة. ولكن السعادة تفهم حسب عقلية المعاصرين، كعطر من الأنانية في ضمير الكثير من الناس المعاصرين.
إلا أن النص الإنجيلي يبدو واضحا، هذا يبحث عن أن يكون سعيدا. وفي جواب يسوع يُثبّت جديّة السؤال. أجل أن علم الأخلاق المسيحي مؤسس على الفلسفة التي يجعل من السعادة هدفا أخيراللسعي الذي يسير فيه.
لم تدعوني صالحا؟ لا صالح إلا الله وحده.
يجيب يسوع الشاب، وفي جوابه هذا إشارة الى ذوق تربوي رفيع المستوى شارحا في ثلاث نقاط: يذكر أولا أن الخير في الله وحده. فان كان علم الأخلاق يُعرف بعلم “الصلاح” لا بد من التساؤل عن منبع الخير والصلاح، من أين يأتي؟ وكيف يستطيع الإنسان أن يعرف ذلك؟ هذه الأسئلة تبقى دائما موضوع الساعة. وتتخذ اليوم منعطفا أكثر حيوية، إن لم يكن أكثر انشغالا للفكر لدى المعاصرين. لذا يكون في جواب يسوع التشديد على أن الخير يتواجد أولا في الله ينبوع كل صلاح.
لئن كان الصلاح يتواجد كينبوع في الله وحده، لذا، فلا يكتشفه إلا الذين يسيرون في الطريق الديني. نجد هذا التعليم مفسرا في رسالة البابا يوحنا بولس الثاني “تألق الحقيقة”، وفيها نجد أول وثيقة تاريخية تتطرق الى علم الأخلاق، وتدعم هذه النظرة الإنجيلية. فالتساؤل حول الخير يعني، في نهاية المطاف التوجه نحو الله، الذي عنده ملءَ الخير والصلاح. يظهر ليسوع أن طلب الشاب هذا هو حقا طلب ديني من شأنه أن يُلزم الإنسان في البحث عن ينبوع الخير في الله (تألق الحقيقة رقم 9).
يضاف الى ذلك أن الذين لا يرجعون الى ديانة واضحة، يستطيعون الاحتكاك بالله من خلال ضميرهم الخاص. وقد قدم التقليد المسيحي الضمير وعرفه كمكان مقدس فيه يبحث كل إنسان عن الخير والصلاح، بكل قواه يجده في الله، منبع كل خير، وإن لم يدعه هكذا. والمرء الذي يطيع ضميره بصدق يطيع الله.
وفي جواب يسوع نجد تعبيرا حول حب الله. فان كان الله محبة، فلا يمكن أن يرغب إلا بالحب.
أنت تعرف الوصايا:
وبعد أن ذكر يسوع بوجود منبع الخير، يعيد الشاب الى الشريعة الموسوية. يفاجئُنا يسوع بهذا الحوار الغريب، حيث يبدو فيه المعلم بعيدا عن استجابة رغبة الإنسان. وإذ كان الشاب يشير الى الأبدية، يَعيده يسوع الى الزمن الغابر. فيما كان الشاب يبحث عن الطريق المؤدي الى السعادة، يُذكّره يسوع بالطريق المتعلق بالوصايا، الإنسان يطالب بالحب؛ أما الحب فيجيب: أطِع الشريعة.
أليس في تربية يسوع هذه ما ينفر الشباب. أنهم يفضلون شيئا أقوى وأكثر إبداعا، ويتساءلون لماذا يسوع لم يرسله الى الموعظة على الجبل التي نجد فيها شركة الحياة المسيحية. فان كان الشاب يحلم باقتناء السعادة، كان يجب أن يكشف له التطويبات. والحال، يكتفي يسوع بإعلان بعض الوصايا. ولكن، في الواقع، كان يسوع يكلمه عن الحب، لأنه يوضح الشروط الأولى لمحتوى الشريعة في أقل درجة من الحب، وبدونه تصبح المحبة فارغة.
وفي الإشارة الى الوصايا نحتاج الى الكثير من الملاحظات. أولا يسوع لا يشير الى الوصايا التي وجهها الله الى موسى إلا تلك التي تخص علاقة الناس فيما بينهم. وبكلام آخر، يتحدث يسوع هنا عن الأخلاق على “صعيد أفقي” والملاحظة الثانية أن الوصايا كلها وردت لنا بطريقة سلبية : “لا” عكس ما يطلبه علم النفس أن نوجه الخطاب بصيغة ايجابية الأكثر قبولا. ولكن الصيغة السلبية: “لا” هي في الواقع أكثر احتراما للحرية الإنسانية. تشير الى أمر ممنوع، ولكنها تترك المجالات الأخرى كلها مفتوحة. فالوصايا، المعبرة بطريقة سلبية تشير الى الشروط الأدنى من الحب للقريب.
يقول يسوع: إنك لا تحب قريبك، إن لم تبدأ في احترام حياته: “لا تقتل” (خروج20/ 13).
وكذلك، لا تحب قريبك إن طعنته بالصميم في علاقاته الشخصية الخاصة، فتختلس زوجته، أو تغش امرأتك: “لاتزن”. (خروج20/ 14).
إنك لا تحب قريبك إن كنت تتعدى في الاستيلاء على أمواله، وعلى حقوقه أو على صيته: “لاتسرق” (خروج20/ 15).
إنك لا تحب قريبك، إن حاولت أن تخفي عنه الحقيقة التي تجعله حرا أو تخون الكلام الذي وعدته به. “لا تشهد على قريبك زورا” (خروج20/ 16).
إنك لا تحب مطلقا قريبك، إن لم تظهر أولا اعترافك بالناس الأكثر قربى، من خلالهم حظيت أنت نفسك بالولادة. لذلك يأمرك الرب أن تحترم أباك وأمك هؤلاء الذين كانوا الأولين في اظهار علامة حبهم لك (خروج20/ 12).
هذه الوصايا تعبر عن كـلام الله، وتشير الى حبه المطلق، وهي، في الوقت عينه كلام الحياة. تروي العقل، والإرادة، والإحساس، والكائن البشري كله، وتجعله يتصرف بطريقة طبيعية. ويقال عن الوصايا انها تختصر التزامات الشريعة الطبيعية. وإذا ما خضع المرء الى هذه الوصايا، بعد الدخول في معركة شاقة، يختبر كل إنسان اختبار الله.
وفي النقطة الثالثة، نشير الى الوصية التي صنعت بطريقة إيجابية “احترم أباك وأمك”(خروج20/ 12). وفي هذه، لا مفر من الهروب، والسبب يكون الآتي. إذ في نص آخر من الإنجيل، يجيب يسوع الى الكاتب الذي كان يطرح عليه السؤال، إن الوصية الأولى متوقفة على أن تحب الله من كل نفسك، والثانية التي تشبهها، تحب قريبك مثل نفسك. (لوقا10/ 25). يقدم الحب للذات كشرط مسبق للمحبة نحو القريب، فالشخص الذي لا يحب ذاته، لا يستطيع أن يحب من يشبهه. يقدم الحب للذات كشرط مسبق للمحبة نحو القريب، فالشخص الذي لا يحب ذاته، لا يستطيع أن يحب من يشبهه. وكيف السبيل أن يحب المرء ذاته؟ يشير يسوع الى الطريقة المعروضة أعلاه.
وفي الإشارة الى الوصايا التي يشير اليها مرقس(10/19)، يستخلص منها يسوع وصية ليست مدرجة في قائمة الوصايا العشر، لا تسيء الى أحد (لا تظلم)، وفي هذه الوصية إشارة ضمنية الى القاعدة الذهبية التي صنعت أولا بطريقة سلبية “وكل ما تكرهه لا تفعله بأحد الناس” (أنظر طوبيا4/15). أو في صيغة إيجابية (وكما تريدون أن يعاملكم الناس فكذلك عاملوهم)”لوقا6/31″. ويؤكد يسوع أن هذه القاعدة البسيطة، معروفة لدى حضارات عدة، تحتوي ما ورد في الشريعة والأنبياء (متى7/12) وهي في الوقت عينه، مختصر للالتزامات الواردة في لاهوت الأخلاق.
وقبل أن يسمع الشاب أن يتقدم يسوع بالنقطة الثالثة من جوابه يباغته بهذا الكلام: “يا معلم، هذا كله حفظته منذ صباي، ماذا ينقصني بعد؟” يظهر جواب الشاب أن الصلاح ليس فوق القوى البشرية أن الله لا يطالب المستحيل فيما يخص الأخلاق.
وعلـى أيـة حـال، ان تكميل الوصـايا لا يستهلك الرغبة في عمل الخير، والرغبة التي في قلب هذا الشاب تقربه، دون أن يعلم، الى قائمة الناس أهل الرغبة الذين تتحدث عنهم الكتب المقدسة، المقتربين من ينبوع الماء الحي(رؤيا12/17).
وحدق إليه يسوع فأحبه
فهم يسوع غنى الطبيعة في مخاطبه, وهو لا يدهشه ذلك, هو الذي يعرف قلب الإنسان أكثر من أي شخص آخر, ويسر فرحاً, ويعبر عن دهشته كما حدث إزاء قائد المائة (متى8/5) أو الكنعانية (متى15/21ـ28). لا شك أن قلب الإنسان ضعيف ومحدود في ذكائهِ. ولا شك أن الخطيئة متوفرة فيه. لكنه, في كل إنسان خلفية من الصحة الأخلاقية التي من شأنها أن تدهش الله نفسه, على حد تعبير الشاعر الفرنسي (Peguy) وإذ ينظر يسوع إلى الشاب, وكأنه يتأمل حبه الشخصي؟
فأجابه: إن أردت أن تكون كاملاً….
وفي هذا العرض, ألم نكن خرجنا عن نطاق الخاص بلاهوت الأخلاق؟ يُعلِق الفيلسوف, ما يخص الأخلاق والوصايا والواجبات المرتبطة بإلتقاء الآخر. أما ما يخص الكمال, فيندرج في منظور آخر, هو التصوف الروحي. وفي هذا التقسيم يرى الفيلسوف التمييز الوارد منذ القرون الوسطى, بين اللاهوت الأخلاقي الذي يُذكر بالواجبات الموجهة إلى عامة الناس, واللاهوت الروحي الذي يرسم طريقة أكثر وعورة للناس الأكثر جرأة, والأكثر سخاء.
وفي هذا التقسيم نرى فيها مفهومين للأخلاق:
ـ إما أن تكون الأخلاق قريبة من الناس ومتكيفة مع عملهم.
ـ أو أن تشير الأخلاق إلى نقطة معينة يتجه نحوها كل شخص حسـب الطـريقة الخاصة بهِ, وبقدر ما يظـهر الذكاء والحب.
والكنيسة الكاثـوليكية اختارت النظرة الثانية, وهذا ما يثير النقد لدى البعض الذين يرون في هذا السلوك صرامة وتشدداً يفوقان القوى البشرية, والمسيح يتحدث عن الكمال.
“إذهب وبع ما تملك وأعطه الفقراء وتعال فأتبعني”.
إن الكمال الذي يتحدث عنه المسيح ليس ثمرة الجهود البشرية, لا شك أن الأمر متعلق في عطاء الذات من خلال توزيع الخيرات إلى الناس الأكثر فقراً عن الذات, ولكن يسوع يحاول إيقاظ الشاب إلى الهبة الكاملة للذات, متعلقة بالحب الأكثر كمالاً والأكثر حقيقة. وما وراء الوصايا والواجبات, ومحبة القريب وحتى ما وراء القاعدة الذهبية, عليك أن تكتشف منبع الحب: وهو أنا.
ولعل الوصايا في تنفيذها تعطيك مفهوماً تكملها أنت بقواك الخاصة. اليس هناك تجربة الوقوع في الكبرياء؟ إنك لن تكون أبداً في حالة إرضاء القانون. إن لم تتبع صاحب القانون. أما قاعدة القوانين فمتوقفة على قبول النعمة الإلهية, في تجرد تام, وتترك المجال أن تشع فيك وحواليك: “هلم واتبعني”.
ما أغزر هذا الحصاد, انه وافر: الفعل, الخير, السعادة, الوصية, الضمير, الواجب, الهبة, الله, التعليم, الشريعة, الحرية, الشريعة الطبيعية, الشريعة الجديدة, الاستحقاق والكمال, الخطيئة, القاعدة الذهبية, الحكمة, الشمولية. هذه الكلمات ضرورية جداً كلما فكرنا بصياغة لاهوت الأخلاق فكان هذا التعليق على النص الإنجيلي في التقاء الشاب بيسوع.
الأب يوسف عتيشا الدومنيكي