“لا تخف، أيها القطيع الصغير…” (لوقا 12: 32)
الأب يوسف يونو عجم الراهب
في ظلّ الظروف الراهنة التي نعيشها، من عالم مليء بالأزمات والضيق والألم والخوف والاضطرابات، في عالم نشعر فيه بأنّنا محاطين بليل مظلم ومُخيف وأزمة لا نجد لها حلاً أو مخرجًا، هل من المعقول أن نترك ونهرب إلى اللامجهول.
والجواب نلقى صداه في قول يسوع للجموع التي كانت تتبعه باستمرار “لا تَخَفْ أيَّها القَطيعُ الصَّغيرُ! فأبوكُمُ السماوي شاء أن يُنعِمَ عليكم بالملكوت”، فمّمن نخاف؟. سبق وأن أنذرنا يسوع المسيح بصريح الكلام بالمضايق التي ستلحق بنا “إذا أبغضكم العالم، فأعلموا أنّه أبغضني قبلكم، فلو كنتم من العالم لأحبَّ العالم ماهو له، ولكن لأنّكم لستم من العالم، لذلك يبغضكم العالم. أذكروا الكلام الذي قلته لكم: ليس العبد أعظم من سيده فإذا كانوا قد أضطهدوني فسيضطهدونكم أنتم أيضًا، وإذا كانوا حفظوا كلامي فسيحفظون كلامكم أيضًا. كل هذا سيفعلونه بكم من أجل اسمي لأنّهم لا يعرفون الذي أرسلني” (يو15: 18-21). وفصَّل لنا أنواع الإضطهادات قائلاً لنا: “احذروا من الناس، فإنّهم سيسلمونكم إلى مجالس القضاء، ويجلدونكم في مجامعهم، وتُساقون إلى الولاة والملوك من أجلي، شهادةً لهم وللأمم… وسيبغضكم الجميع من أجل اسمي” (متى 10: 17-18). “بل ستأتي ساعة يظن فيها كل من يقتلكم أنّه يقرّب لله قربانًا” (يو16: 2).
من أعماق النكبة وغمرة الألم، وظلمة الذهن وضياع الرجاء، من جبرة الوجود، وإنغلاق الآفاق، وفقدان الحاضر وذوبان المستقبل، من تثاقل الوحشة، وإنسداد الدروب، وغياب المودة وحرمان الحب، ومن عمق حفرة الحياة التعيسة البائسة صرخ النبي أيوب إلى ربه. رجلُ أوجاع اتّهمه أقرب الناس إليه بأنّه هو في عصيانه سبب محنته، وحرّضه بعض ذويه على التمرد. ولكنّ أيوب، وإنْ قصر عقله عن فهم ما حلّ به، لم يمل إلى العصيان والتمرد، بل توجه إلى من بيده مقادير الكون وصرخ إلى ربّه. شكا وجعه. وطرح السؤال بعد السؤال على العالم وعلى الله: لماذا؟ وأجابه الله. عن سؤاله وشكواه بسؤال يمهّد السبيل للوعي والإدراك: “أينَ كنتَ حين أسّستُ الأرض؟” (أيوب 38: 4).
هنا أقول يجوز لنا أن نطرح الأسئلة ونعبّر عن الظلمة التي تكتنف عقلنا إزاء الألم وأنواع الوجع في حياتنا وفي العالم، وإزاء أوجاع الأبرياء وآلام الخطأة. يجوز لنا أن نشير إلى ضيقنا. ونصرخ إلى الله في فاقتنا. ولكن لا يجوز لنا أن نُخضع الله لمعاييرنا البشريّة. لا يجوز لنا أن ننصب أنفسنا مكان الله ونحاسبه. فإنّنا لا طاقة لنا في صغرنا على ذلك. عقلنا يلفّه الغموض، وبصيرتنا تغشاها الجهالة، وقلبنا تغلّفه الظلمة، وحياتنا تثقلها الخطيئة.
فموضعنا خاص بنا، موضعنا مكانة الإنسان. يجوز لنا أن نشكوا إلى الله ألمنا والأذى الذي يلحق بنا، ملتمسين منه أن يساعدنا على أن نفهم شيئًا ممّا يصيبنا، وأن يعيننا على إحتمال مصائبنا، وأن ينعش في قلوبنا جذوة الرجاء. يجوز لنا كلُّ هذا. ولكن لا يجوز لنا أن نتمرد على الله، ونشكوا ونتظلم من الله ونحاول أن نحكم عليه. يجوز لنا أن نقول له، في خلوة قلبنا وأمام الناس، إنّنا لا نفهم ولا نستطيع أن نغيّر مصائبنا. ولكن لا يجوز لنا أن ننصب أنفسنا بدلاً عن الله.
حين هبّت العاصفة على تلاميذ يسوع، وهو معهم في السفينة، أيقظوه من نومه وقالوا له: “يا معلّم أما يَهُمك أنّنا نهلك!” (مرقس 38). فبعد أن سكّن يسوع الريح قال لهم: “لِمَ خوّفكم هذا؟ أحتى الأن لا إيمان لكم؟” (مرقس 4: 40). “ألا يهمُكّ أنّنا نهلك؟” بل يهمه كثيرًا ولكنّه يتصرف على طريقته هو، والتي تفوق فهمنا. علمه غير علمنا، وحكمته غير حكمتنا. فلا شيء أفضل لنا من أن نثق برحمته وحبّه، ولو أصابنا الوجع، ولو لم نفهم ما يحدث.
هكذا، نمر نحن أيضًا بمواقف وأزمات تبدو بلا حل، ونجد أنفسنا في مأزق يُعدّ، من الناحية البشريَّة، طريقًا مسدودًا لا أمل للخروج منه. والكثير منّا، إن لم يكن جميعنا، أختبر مثل هذا الموقف. يظلّ الإنسان يتخبّط في مشكلته، محاولاً إيجاد حل لها بنور عقله ومهارة تفكيره، ولكنّه لا يتوصَّل إلى أي حل ينقذه. فما دام يحاول بعلمه وبإمكانيَّاته البشريَّة، فإنّه لا يجد أي مخرج، ويظلّ في طريق مسدود، فاقدًا كل أمل بشريّ. وفي هذا الوقت الذي تعجز فيه الإمكانيَّات البشريَّة، يتدخّل الله ويباشر عمله، بعد أن توقفت ساعة الإنسان عن كل عمل.
هذا هو مفهوم قضيَّة الإيمان، الذي يقوم على التمسّك بالله والاستسلام له، حين تعجز قوانا ويعجز كل من حولنا وتفشل كل إمكانيّات البشرية في إيجاد مخرج يُنقذنا من طريقنا المسدود ويقدِّم الحل لمشكلتنا التي لا حلّ لها بشريًا. في هذه اللحظة يلجأ الإنسان إلى الله ويستغيث بصرخة الإيمان وبنداء الرجاء، لأنّ الله أقوى من الظروف ومن يأس الأحداث. لله الكلمة الأخيرة والنهائيَّة في كل موقف حرج وطريق مسدود. إنّه الإيمان بأنّ الأرض وملؤها هي للرب خالقها ومدبّرها، وهو يفيض عليها بيمينه وحكمته النعمة التي هي بحاجة لها، ويدير حلقات تاريخها مع الإنسان وخلف الإنسان وعبر الإنسان..
إذاً “لا تَخَفْ أيَّها القَطيعُ الصَّغيرُ! فأبوكُمُ السماوي شاء أن يُنعِمَ عليكم بالملكوت.” إن الله قريب وهو يسمعنا حين ندعوه، وليست صلاتنا صرخة في بطن وادٍ، أو نداءً في صحراء، بل الله يسمع كل همس ندعوه به. وبهذا الإيمان لا تكون صلاتنا مجرد صرخة ألم وأنين، بل نداء ثقة ويقين، صادر بهدوء وإطمئنان. فإنْ كان الأمل البشري قد إختفى، فإنّ الرجاء المسيحي باقٍ، فإذًا أنا لست وحدي لأنّ الله معي، وهو يسندني ويحل مشاكلي ومصيري وأوجاعي.
إني أدعوك يا رب، فاستمع لي
إني أتضرَّع إليك، فأنصت إليَّ
إني أصرخ إليك، فاستجب لي