مار انطونيوس الكبير
مقال نشر في مجلة ربّنوثا السنة السابعة – العدد 4 – كانون الأول 2001
كنا صغاراً نلعب ونفقد أحياناً بعض مقتنياتنا العزيزة علينا، فنلجأ الى من هو أكبر منا سراً، نسأله عنها. فيكون جوابه: صلي من اجل مار انطونيوس كي يظهرها لك حالا! وفعلاً كنا نصلي بحرارة لهذا القديس كي يظهر لنا مفقوداتنا، وكأنه هو الذي اخفاها عنا عمداً! نصلي ليرينا عجائبه السريعة في الاستجابة معظم الأحيان، فنفرح بها كثيراً.
ومن ذكريات طفولتي عن هذا القديس الملقب بـ (كوكب البرية)، أنني كنت الصبي الوحيد في عائلتنا بعد خمس بنات. وبديهي ان اكون من المعززين المدللين فيها، فكان الاقرباء والاحباء، يأتون لي بالاحراز والالغاز المغلفة بقطع من الجلد على شكل مثلثات تسمى بالسورث (كادا). يخيطونها بملابسي كي تبعد عني الشر والمرض. كنتُ احتفظ بواحدة منها الى زمن قريب. ففتحتها، فوجدتُ في داخلها ورقة تميل الى الإصفرار، تكسرت عند محاولتي فتحها لقدمها، مكتوبة بالسريانية (سورث) وبلهجة عامية، وبالحبر الأسود والأحمر، وبخط رديء تصعب قراءته. واذا بها دعاء الى قديسنا المحبوب مار انطونيوس، كي يحفظني ويطيل في عمري و…
هكذا تعرفت على هذا القديس الذي بشفاعته حفظني الرب حتى اليوم، وأظهر لي مفقوداتي التي لم تكن تتجاوز بعض الأفلاس او الخرزات والدعابل او الكعوب او… في ايام الطفولة. ووفاء لتلك الأيام أحاول تقديم شيء عن هذا القديس.
انطونيوس الاسم
أصل اللفظة من القبطية. ربما تعود جذورها الى العصور الفرعونية السحيقة في القدم. وربما ايضا، أخذها منهم الرومان البطالسة، فسموا بها أباطرتهم. ولم تسعفني المصادر التي في متناول يدي للتوصل الى اشتقاقاتها ومعانيها. ويُكتب باشكال عديدة حسب الزمان والمكان، فيقال: انطون. انطُن. انطوان. انطونيو. انطانيوس. طنوس. انتون. انتوني. توني. عَلطُُن. عَلطوني.. ربما هناك صور واشكال أخرى لم اسمع بها. وعلى اي حال، فهو اسم علم خاص بالمسيحيين في المشرقين. ولا يفوتني ان اذكر، أن حرفي الواو والسين الأخيرتين، من وضع اليونان لتدل على الاسم.
انطونيوس القديس
ولد قديسنا سنة 250 في بلدة (كوما) التي تسمى حالياً (قمن العروس) في ارض مصر. من عائلة غنية. توفي والده حين كان في العشرين من عمره تاركاً له الأموال الطائلة والأراضي الشاسعة، تقدر بـ (300) أكر.
أحسّ الشاب بخطورة الغنى وجمال الحياة الأبدية، فوزع جميع ممتلكاته على الفقراء والمحتاجين. واتجه الى حياة النسك والفقر والتقشف، من اجل الله تعالى. واستودع اخته بيتاً للعذارى. وانطلق خارج المدينة يعيش بين القبور، يمارس العبادة الحرة والتوحد لمدة خمسة عشر عاماً.
ثم لجأ الى الجبال ليقضي فيها عشرين عاماً أخرى، إلا أنه لم يستطع ان يظل في عزلته. فقد زاره العديد من الناس طالبين معونته لأرشادهم الى طريقة للتغلب على مغريات الحياة. ثم توغل في البرية، فعبر النيل الى الصحراء الشرقية. وفي موقع (بسبير) (مكان دير الميمون حالياً، منتصف المسافة بين أطفيح وبني سويف). وجد قلعة قديمة، فسكنها. عاش في نسك شديد بعيداً عن اثقال الدنيا، معتمداً على الخبز اليابس والملح وبعض المأكولات البسيطة التي كان يمدهُ بها أحد محبيه بين حين وآخر.
يعتبر القديس أنطونيوس أول من أعطى السر الرهباني للعالم، وذلك حينما لقنه لأولاده وسلّمه اليهم كميراثٍ ثمين، ظل يتوارثه العالم كله من بعده جيلاً بعد جيل. وقد توفرت لدى انطونيوس منذ البدء كل العوامل التي ألهمته ان يكون أباً ومؤسساً للحياة الرهبانية.
وكان أحياناً يغادر الجبل ليحارب الهرطقة او لمواساة أسرى الامبراطور (مكسيمليان) من المسيحيين. استمر على هذا المنوال حوالي عشرين عاماً وهو في قلعة (بسبير). وقد التجأ اليه جمع غفير من أحبائه ومريديه وسكنوا حوله وعاشوا عيشته متمثلين بنسكه وزهده. أما هو فلم يلتفت اليهم فلما بلغ الضيق بهم بسبب تجاهله إياهم. اقتحموا بابه طالبين منه ان يخرج اليهم. فأذعن لمطالبهم وقبل غايتهم. كان ذلك سنة (305). وقد اعتبر مؤرخو الرهبانية هذا التاريخ، اول نشأة للرهبانية المنظمة في مصر. ثم بدأت الصحراء تستقبل أفواج الحجاج الطالبين ملكوت الله بواسطة الطريق الضيق. فملأ الرهبان الصحراء بسرعة مذهلة.
كان على الراهب انطونيوس حينئذ ان يتنقل دائماً كأب بين جماعات أولاده من مكان الى آخر. وعلى هذا المنوال، تكوّن اول نموذج للنظام الرهباني بصورة تلقائية . أب يرعى أسرة روحية من الأبناء، يمكن اعتبارها أول حياة مشتركة مؤسسة على القلالي الكثيرة، من اول جماعة إجتمعت حوله في قلالي منفردة. كان ذلك ايذانا ببدء عصر الاديرة في مصر وبالتالي في العالم.
كان يسمى التجمع الرهباني في صورته الاولى البسيطة باسم (لاقرا) (Lavra). وفي المخطوطات القبطية القديمة والعربية باسم (السيق) وجمعها (أسياق). أما نظام المعيشة، فكان وسطاً بين النظام التوحدي، ونظام العيش المشترك. حيث كان القديس يعيش على بعد (12) ميلاً بعيداً عن جماعته. يدير شؤونهم عن بعد. وكان يطلب من مريديه ان يعيش الواحد منهم في (وحدته) اولاً ثم ينظم الى الآخرين يعد الإختبارات والمجاهدات الصعبة. فكان يجمع بين الوحدة والمعيشة المشتركة في آن واحد.
بهذه الروح وبهذا الشكل، نمت الرهبنة وازدهرت وتقوت الوحدة وعمرت القفار والجبال وصارت كجنة الله على الارض.
في سنة 356م انتقل القديس انطونيوس الى الحياة الأبدية، بعد ان عاش مائة وستة اعوام مملوءة بالقداسة لا زالت ذكراه العطرة تملأ نفوسنا رغم مرور كل هذه الحقب الزمنية الطويلة. وبعد سنة من وفاته، كتب القديس (أثناسيوس) سيرة حياته، توضح أصالة نهجه المسيحي في تطبيق وصايا الانجيل ومخلصنا يسوع المسيح. فقال عنه: انه الرجل الذي يستطيع ان يصنع المعجزات ويميز بين الارواح الخيّرة والشريرة. انتشر هذا الكتاب بشكل رائع. وقرأه كل من القديس (هيرونيموس) والقديس (اوغسطين). وقبل نهاية القرن الرابع، قام بطريرك أنطاكية بترجمته الى اللاتينية.
وليس من المستغرب ان تشتهر أقوال وسيرة حياة هؤلاء الرهبان. وقد نسي العديد منها قبل ان تجمعها (هيلين دارل) في كتابها المشهور بإسم (آباء الصحراء) وقد اقتبست ملاحظة المؤرخ الكنسي الالماني (أدولف فون هادناك) حيث قال: اذا سمح لي باستخدام لغة قوية، فلن ازد في القول على انه ليس هناك من كتاب ذي تأثير بيّن على مصر وعرب آسيا واوربا مثل كتاب (سيرة حياة القديس انطونيوس).
وفي العصور الوسطى قدّس العالم المسيحي الأماكن التي قطعها القديس أنطونيوس الكبير. وألهمت تعاليمه العديد من الأتباع، كان أشهرهم القديس أنطونيوس البادوي الذي ولد بمدينة لشبونة في البرتغال في 15 أوغسطس 1195 ودعي بإسم فرناندس.ثم انخرط في سلك الرهبنة في دير القديس اوغسطينوس، ثم انتقل الى دير الصليب المقدس بمدينة كوئمبرا، وفي هذا الدير ظهرت عجائبه. ثم انتقل الى رهبانية الاخوة الفرنسيسكان عام 1220م وحينها غيّر اسمه الى انطونيوس تعظيماً لأبي الرهبان.
انطونيوس التلميذ
من اشهر وأجل اساتذة قديسنا المبجل هو القديس “بولا” الذي يعتبر اول المتوحدين. كتب عنه (جيروم) سنة 374 فقال: في ايام اضطهاد ديسيوس (داكيوس) و (فاليران) سنة 250، كان (بولا) شاباً في السادسة عشرة من عمره متعلماً يتقن القبطية واليونانية. خرج من العالم وارتمى في حضن الله، بعيداً في سفح احد جبال (العربة) على بحر القلزم (الاحمر) مع نساك آخرين. ولكن دون ان يكون لهم منهج او مكان يجتمعون فيه او نظام يتبعونه. ولا زالت آثار ديره شاخصة.
وقد تراءى لمار انطونيوس برؤية إلهية عن مكان هذا القديس فقرر أن يزوره ليبلغه تحية الكنيسة وليستلم منه سر حياته وتقواه ليذيعها على العالم أجمع. عندما سمع مار انطونيوس باقتراب ساعة معلمه. حضر عنده وهو على وشك أن يلفظ أنفاسه الأخيرة وأحضر معه (تونية) الأنبا (اثناسيوس) بابا الاسكندرية الذي كان قد أهداها له ليدفن بها.
كان الانبا (بولا) قد بلغ المائة وعشرة اعوام في توحد كامل يفوق العقل. في حين كان عمر تلميذه، تسعون عاماً. وفيما هو يسرع الخطى ويدب بعصاه فوق الصخور الوعرة يتسلقها بخفة الروح متجهاً صوب مغارة القديس بولا. اذ به يرى نوراً من السماء والملائكة تحمل روح المعلم. كان ذلك في سنة 340 واستلم الشعلة الوهاجة خليفته القديس انطونيوس واضع قواعد وأسس الرهبانية.
انطونيوس المعلم
من تلامذته المشهورين القديس (مقاريوس) الذي اعتمد عليه وسلّم له خبراته وتعاليمه الروحية وألبسه الاسكيم المقدس وبشر معه في روما سنة 340. قال القديس انطونيوس لتلميذه عندما البسه الاسكيم: “تأيد واحذر وتحفظ على القوة التي عندك، اعني الكاروبيم المقدس، اي قوة روح القدس. لأن الرب معك لمساعدتك”. وأعطى الشيخ الجليل تلميذه شبوبته العتيقة، اي عصاته التقليدية المعروفة في التاريخ والفن القبطي. انها على شكل صليب، يسمى صليب انطونيوس. وهو على شكل حرف التاء الانكليزية (T) وهي رمز درب الصليب. وقبّله قبلة مقدسة، وقد تنبأ له بمستقبل زاهر في طهارة النفس وقداسة الروح. ويعتبر (مقاريوس) الوريث الوحيد لفضائل ونعمة انطونيوس، كتب سيرته القديس (سيرابيون) وهو أحد تلامذة انطونيوس ايضا، وهو الذي صار أسقفا لـ (تمي الامديد) كما جاء في كتاب قديم اسمه “الابو فثجماتا”.
سالم عيسى تولا- ديترويت
المصادر:
- دراسات في تاريخ الرهبانية والديرية المصرية د.حكيم امين.
- الاديرة المصرية العامرة، القمص صموئيل تاوضروس السرياني.
- اديرة وادي النطرون، د. منير شكري.
- قصة الكنيسة القبطية، ايريس حبيب المصري الجزء الاول والثاني.
- سير الاباء، روفينوس.
- الرهبنة القبطية، الاب متي المسكين القاهرة 1972 ص43 وما بعده.
- اكتشاف الكتاب المقدس (قيامة المسيح في سيناء تأليق: جيمس بنتلي ترجمة: آسيا محمد الطريحي القاهرة 1995 ص53 وما بعده.
- سيرة العجائبي القديس انطونيوس البادوي ، الاب لويس برسوم الفرنسيسكاني القاهرة 1976 ص10 وما بعدها.
- Saint Anthony of Padua.