مقدمة

التكريس هو عمل وثمرة الروح القدس، يكشفها ويهبها لأشخاص اختيروا بمبادرة مجانية من الله الأب، ليعملوا حسب وصاياه ويجسدوا مشيئته من خلال تلبيتهم لنداء ودعوة ابنه في التلمذة والاتباع. على غرار دعوة إبراهيم “اترك ارضك وعشيرتك وأهل بيتك وأرحل الى الأرض التي أريك” (تك12: 1) ودعوة صموئيل “فجاء الرب ووقف ودعا كالمرات الاول صموئيل صموئيل. فقال صموئيل تكلم لان عبدك سامع. فقال الرب لصموئيل هوذا انا فاعل امرا في اسرائيل كل من سمع به تطن اذناه” (صم3: 10-11) ومريم العذراء نموذج لكل المكرسين فقالت مريم: “هوذا انا امة الرب. ليكن لي كقولك” (لو1: 38).

الدعوة والانتماء

الحياة المكرسة هي هبة مجانية ومناشدة من الله الآب، الذي يبادر دائمًا بسخاء محبته اللامتناهية، داعيًا اشخاص ليفرّزهم ويخصصهم، للعمل في كرمه وحمل رسالته الخلاصية، بكل غيرة ونشاط. فهو لايزال يبادر ويختار المدعوين عبر تاريخ التدبير الإلهي من دعوة ابينا في الايمان إبراهيم وموسى وبقية الأنبياء والرسل والى يومنا هذا يختار ويدعو وما على المدعو الا ان يتجاوب بكل حرية وتواضع وبجدية المسؤولية الملقاة على عاتقه. “ليس أنتم اخترتموني بل انا اخترتكم، وأقمتكم لتذهبوا وتأتوا بثمر، ويدوم ثمركم، لكي يعطيكم الآب كل ما طلبتم باسمي” (يو15: 16).

وهذه الدعوة تتطلب الاصغاء والتمييز والمعرفة لصوت الله المنادي، وسط ضجيج ومشاكل هذا العالم. وهذا لا يمكن أن يتحقق من دون كشف الروح القدس الذي يهبه الله الآب لمختاري ابنه يسوع المسيح، للمدعوين الى التلمذة والاتباع (تعال اتبعني) وكما جاء في إنجيل متى “كل شيء قد دفع الي من ابي وليس أحد يعرف الأبن إلا الآب ولا أحد يعرف الآب الا الأبن، ومن أراد الأبن أن يعلن له” (متى 11: 27).

إتباع يسوع هي المرحلة الأولى للتعلم والتلمذة ومعرفة حقيقة هويته ورسالته الخلاصية من خلال عيش الخبرة الايمانية ومرافقته ومتابعة ارشاداته فهو الدليل المضمون (تعال وأنظر) وكما جاء في إنجيل يوحنا “فالتفت يسوع ونظرهما يتبعان، فقال لهما ماذا تطلبان؟ فقالا: ربي الذي تفسيره يا معلم، اين تمكث؟ فقال لهما تعاليا وأنظرا فأتيا ونظرا أين كان يمكث، ومكثا عنده ذلك اليوم، وكان نحو الساعة العاشرة” ( يو1: 38-39) 

اذًا الاتباع يتطلب الخبرة الروحية وشهادة إيمانية تتبلور في التجرد وترك كل شيء وافراغ الذات وتحررها من كل الكنوز الفاسدة، لتمتلئ بمحبة الله ومواصلة السير على خطى المعلم وإعلان بشارة مملكة الله. فالحياة المكرسة هي الشهادة الحية والخبرة الايمانية ومن المستحيل ان تتحقق بالشكليات والمظاهر. وتتعارض مع روح العلمنة ولا تتوافق حسب متطلباتها ومعاييرها وتعاملها البشري، فهي سباحة ضد التيار للوصول الى بر الأمان. ومن مميزاتها وأولويتها هي روحية الصلاة والتواضع والصبر والحكمة والفطنة وتمييز الأرواح والمشورة وبقية مواهب الروح القدس. فالحياة المكرسة تتجسد وتتفاعل في الجماعة التي تعيش ديناميكية الحياة المشتركة وتمتلك كاريزما مؤسسها الروحي، و وفق قوانينها وأهدافها وتعطي شهادة حية في عيش المشورات الانجيلية وروح التطويبات من خلال الصلاة والعمل والتعامل الأخوي المبني وفق دستور المحبة والمغفرة وقبول الأخر. وحسب وصايا الرب أحبوا بعضكم بعضًا وفق مقاييس ومعايير الرب، وليس حسب مقاييسنا ومعايرنا البشرية، ولا فقط حسب القوانين والأنظمة الرهبانية. “طهروا نفوسكم في طاعة الحق بالروح المحبة الأخوية العديمة الرياء، فأحبوا بعضكم بعضًا من قلب طاهر بشدة” ( 1بط1: 22 )

بالتأكيد هذه هي الجماعة الحقيقية وشاهدة عيان لقيامة الرب يسوع المسيح من بين الأموات. وكانت تسمى عبر التاريخ الرهباني باسم (أبناء القيامة) وهي القلب النابض للكنيسة الذي يضخ الدم في أعضائها وينعش حياتها. وكم لنا في التاريخ الكنسي شهادات وخبرات تعطي أهمية كبيرة لدور وفعاليات الأديرة والرهبانيات في رسالة الكنيسة وعملها التبشيري.

الحياة المكرسة هي في العالم وليست من العالم

الحياة المكرسة هبة من الله الى كنيسته عبر الروح القدس وهي الرئة التي تتنفس بها. وبفضل اعتناق المشورات الانجيلية، تنكشف ملامح يسوع المميزة وتصبح مرئية من خلال النذورات العفة والفقر والطاعة. فهي ليست وليدة اليوم، بل نشأت وترعرعت في أحضانها منذ القرون الأولى. فقد هبّ دومًا وعلى مر الأجيال، رجالاً ونساءً ملبيين نداء الله الآب وبتحفيز من الروح القدس في اتباع المسيح وبذل ذواتهم للرب بقلب غير منازع “فأريد ان تكونوا بلا هم. غير المتزوج يهتم فيما للرب كيف يرضي الرب، واما المتزوج فيهتم فيما للعالم كيف يرضي امراته. ان بين الزوجة والعذراء فرقا غير المتزوجة تهتم فيما للرب لتكون مقدسة جسدا وروحا. واما المتزوجة فتهتم فيما للعالم كيف ترضي رجلها” ( 1قو7: 34-35 ) فهي ليست حقيقة معزولة وهامشية، بل هي من مهام الكنيسة كلها وجزء لا يتجزأ من رسالتها ولم تحصر في مهمة العون والدعم للكنيسة في الماضي وحسب، بل انها لا تزال هبة نفيسة وضرورية لشعب الله اليوم وغدًا، لأنها تمت بطريقة حميمية، الى حياته وقداسته ورسالته.

إن التحديّات التي تواجه الحياة المكرسة اليوم وفي الكثير من دول العالم، يجب الا يحملنا على التشكيك في أن إعتناق المشورات الانجيلية إنما هو جزء لا يتجزأ من حياة الكنيسة التي تستمد منها عزمًا قويًا لمزيد من التحصن الإنجيلي. فلا يخفى على أحد حجم التحديّات التي تواجه الحياة المكرسة في عالمنا اليوم، وسيطرة العلمنة وبدعها الكثيرة على غالبية الناس بأفكارها المشككة. هذا من جانب أما من الجوانب الأخرى، كالصراعات والحروب المستمرة وما خلفته من أنظمة سياسية فاسدة، أدى الى ظهور عصابات إرهابية وميليشيات غير منضبطة وفلتان أمني، دفع الكثير من العقول المفكرة وخيرة أبناء البلد من الشباب الى الهجرة والبحث عن حياة كريمة. وسط أمواج هذه التحديات وقلة الدعوات الرهبانيّة والكهنوتيّة التي نواجها يبقى السؤال ماذا ينبغي علينا أن نفعل؟ وماهي السبل المتاحة لجذب الدعوات الناضجة؟

بالتأكيد هنا، هو واجب القيام بمبادرات جديدة وتفعيل الكاريزما وروحانية المؤسس وتجديد الليتورجية وفق متطلبات العصر وتقوية الأواصر الأخويّة والنضوج والانفتاح الإنساني في الجماعة، لكي تنمو اجتماعيًا ونفسيًا وروحيًا وانسانيًا. والتركيز على بناء شخصية المكرس انسانيًا وليس اداريًا بناء البشر قبل الحجر وهذا ما يؤكده البابا فرنسيس في مواعظه قائلاً (نحتاج أن نفكر دائمًا وبعمق في شعب الله ولا ينبغي أن نشكل اداريين ومدراء، بل آباء وأخوة ورفقاء الدرب. التنشئة هي حرفة تربويّة وليس عمل شرطي) هكذا تنمو فتعطي شهادة حية لعيش الملكوت المصغر من خلال المشورات والتطويبات الانجيلية فتكون علامة فرح ورجاء وسلام لعالم الذي فقد طعم هذه الأذواق فصلوا وأطلبوا من رب الحصاد أن يبعث فعلة لحصاده، فقال لهم: ان الحصاد كثير ولكن الفعلة قليلون. فاطلبوا من رب الحصاد ان يرسل فعلة الى حصاده” (لو10: 2).

الخاتمة

اختم موضوعي هذا بنداء قداسة البابا يوحنا بولس الثاني في إرشاده الرسولي عن الحياة المكرسة إلى الأشخاص المكرّسين بتاريخ 25 آذار 1996 في روما، قائلاً: “ولكني إليكم خصوصاً، أيها النساء والرجال المكرّسون، أوجه ندائي واثقاً، في ختام هذا الإرشاد: عيشوا ملء تقدمتكم لله، لكيلا يُحرم هذا العالم شعاع البهاء الإلهي الذي ينير طريق الوجود البشري. المسيحيون الغائصون في مشاغل هذا العالم وهمومه، والمدعوّون، مع ذلك، هم أيضاً إلى القداسة، هم بحاجة إلى أن يجدوا فيكم قلوباً مُطَهَّرة “ترى” الله في الإيمان، ونفوساً طيّعة لعمل الروح القدس، تسير بنشاط وأمانة لموهبة دعوتها ورسالتها تعلمون جيداً أنكم نهجتم طريق توبة متواصلة وعطاء مطلق لمحبّة الله وإخوتكم، لتشهدوا للنعمة التي تجدّد الوجود المسيحي شهادة أجمل فأجمل. العالم والكنيسة يفتّشان عن شهود للمسيح حقيقيين. والحياة المكرّسة هي نعمة من الله يمنّ بها علينا، لكي نُظهِر أمام عيون الجميع “الحاجة الضروريّة الوحيدة” (لو 10/42). الحياة المكرّسة، في الكنيسة وفي العالم، هدفها المميّز أن تشهد للمسيح بالسيرة والأعمال والكلام”.

الأب دنخا عيسى الراهب