المقدمة

الدعوة هي نداء من الله الآب لكل معمّذ، فهو مدعو للتلمذة والعمل لتحقيق مشروع الله وتدبيره الخلاصي، لإنشاء وبناء عالمٌ يسوده المحبة والعدالة والسلام، وهذا ما يتطلّب تجاوبًا ومشاركةً وقبولاً وتسليمًا كاملاً وطاعةً حرّه، لتتميم إرادة الله والعمل بمسؤولية جادّة، وتلبية نداء الله الآب من أجل بناء حضارة المحبة والحياة الكريمة، لمستقبل أفضل لكل الأجيال. من الضروري إذاً اكتشاف وإختبار الدعوة ومعرفة الكاريزما وروحانيّة المؤسسة وإختيار البيئة الملائمة والحقل الخصب، ليكون نقطة إنطلاق للعمل الرعوّي والتبشيري.

الداعي والمدعو

الدعوة قبل كل شيء هي جواب المدعو بقوله نعم للداعي، الذي يدعوه قائلاً “تعال إتبعني، ها أنذا يا رب خادمك ليكن لي حسب مشيئتك”، على غرار إبراهيم أبينا في الإيمان الذي ترك أرضه وعشيرته وسار مع الله الى المجهول، وصموئيل الذي أصغى الى كلام الله مكرسًا ذاته، وإرميا الذي كرّس ذاته كلياً لله وتلميذه إيليشاع الذي ترك وتبع الله، ثم بقية الأنبياء والرسل، وأمنا مريم العذراء التي أصغت وتأملت وحفظت كلمة الله وحملتها في إحشائها وولدت الابن يسوع المسيح “وَأَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذَا الْكَلاَمِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا” (لو2: 19).

الدعوة هي كالبذرة الصغيرة، يسميها الإنجيل حبة خردل وهي أصغر البذور، فإن لم تقع في أرضٍ خصبة تموت ولن تعطي ثمارًا. لا يكفي عامل الخصوبة، إن لم تكن هناك رعاية وإهتمام وبيئة حاضنة وملائمة. يشبهها الإنجيل أيضًا بالمزارع الذي بذر الحبوب في حقل واسع ومتنوع، بالرغم من عدم جودة بعض الحقول وخصوبة في الأخرى، فأعطى ثمارًا وبنسب متنوعة مِئَةً وسِتِّينَ وثَلاَثِينَ “وَأَمَّا الْمَزْرُوعُ عَلَى الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ فَهُوَ الَّذِي يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ وَيَفْهَمُ. وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِثَمَرٍ، فَيَصْنَعُ بَعْضٌ مِئَةً وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ ثَلاَثِينَ” (متى13: 23) والدعوة تكمن في الأصغاء والتأمل، بكلمة الله وإسكات الأصوات التي نَسمعها عِبرَ القنوات الفضائية ومن خلال وسائل التواصُل الاجتماعي وبشكل خاص الأصوات الناشزة والتي تُحدِث تشويشًا. لكي نصغي بوضوح لصوت الله المنادي ونميزه عن بقيّة الأصوات، سيتطلب هذا إفراغ الذات، بالترك والتجرّد من الأنا العليا وجمح غرائزها وشهواتها، والتجرّد من السلطة والتسلط والشموخ والتكبر وجشع التملك. هذا ما نراه جليًا في مجتمعاتنا الدوليّة وساستهم المتكلين على القوة الاقتصاديّة والعسكريّة والمعتدين على الطاقة العقليّة والإستقلال التام عن الله الخالق، وهذا ما تروّجه العلمنة الملحدة في عالمنا المعاصر. بالتأكيد هذا الاصغاء والانتباه لا يأتي إلا من خلال الصلاة والتأمل وحفظ كلام الرب والعمل بوصاياه وإرشاداته وإختبارها وعيشها في واقع الحياة اليومية، ومن خلال هذه الخبرة الإيمانيّة تتبلور وتتوضح فكرة الدعوة والإتباع. بعد التأكد من مصدر الصوت تنمو في المدعو الرغبة الى الصلاة والتأمل بصمت، وعيش التكريس الذاتي في الجماعة المكرّسة، من خلال النذورات والمشورات الإنجيليّة، ومن ثم ينتابه الشعور بالإرتياح والسلام الباطني، رغم كل الصعوبات وتحديّات وإغراءات العلمنة وأفكارها وشعاراتها الرنانة ووعودها في الحصول على السعادة المزيفة.

الاختيار والتمييز

الاختيار وتمييز الدعوات، هما من أصعب القرارات، التي تواجه أغلب المدعوين للمشاركة وحمل المسؤوليّة على كافة أصعدة الحياة، وبشكل خاص الحياة المكرسة. هناك الكثير من الاختيارات ومجالات العمل المتنوعة والمتشعبة في نمط إسلوبها وأهدافها ورسالتها، على سبيل المثال المؤسسات الرهبانية بكل تسمياتها، والأخويات المكرّسة والجمعيات الخيريّة والاكليريكيات والمؤسسات والمعاهد الكهنوتية. أما من جانب الحياة العلمانيّة هناك اختيارات عديدة، منها إختيار نمط الدراسة وإختيار نوعيّة المهنة والوظيفة، وإختيار شريك الحياة وتكوين الأسرة والتي تعتبر النواة الأولى في المجتمع. هنا يكمن دور وأهميّة الاختيار وتمييز الدعوة وخاصةً لدى المدعو الى الحياة المكرسة، وهذا هو موضوع مقالنا حول الدعوة والاختيار. بالنسبة للحياة المكرسة الاختيار يأتي بمبادرة من الله الأب (الداعي) يختار من يشاء، وما على المكرس (المدعو) إلا أن يتجاوب بحريّة وتواضع وفرح “لَيْسَ أَنْتُمُ اخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ، وَأَقَمْتُكُمْ لِتَذْهَبُوا وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ، وَيَدُومَ ثَمَرُكُمْ، لِكَيْ يُعْطِيَكُمُ الآبُ كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ بِاسْمِي” (يو15: 16).  

الاختيار والتمييز هما صورتان لعملة واحدة، وهي الدعوة الى التكريس، فالتمييز يساعد المدعو أن ينظر الى الأحداث وقضايا وأزمات العالم بعيون الإيمان، فيقرأ الحاضر بمنظار المستقبل، ويعرف ويفهم الفرق بين ما هو من روح وعمل الله، وبين ماهو من روح الشيطان ومقاصده الخبيثة، فمن ثمارهم تعرفونهم كما يقول الرب لنا في إنجيله ” مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ عِنَبًا، أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِينًا؟ هكَذَا كُلُّ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تَصْنَعُ أَثْمَارًا جَيِّدَةً، وَأَمَّا الشَّجَرَةُ الرَّدِيَّةُ فَتَصْنَعُ أَثْمَارًا رَدِيَّةً، لاَ تَقْدِرُ شَجَرَةٌ جَيِّدَةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَارًا رَدِيَّةً، وَلاَ شَجَرَةٌ رَدِيَّةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَارًا جَيِّدَة” (متى7: 16-18) اذًا هناك علامات ورموز ترشدنا الى التمييز، وهذا ما يكشفه لنا الروح القدس روح المشورة والحكمة والفطنة، فنتمكن من تمييز الأنبياء الكذبة والمرائيين، والتمييز ضروري ومهم لاختيار البيئة الملائمة، لنمو بذرة الدعوة وبلوغها مرحلة النضج وهذا دائماً مع الخبرة الروحيّة والصلاة والتأمل، سيكتشف المدعو ذاته وقدراته ومؤهلاته، فيسخرّها مع الجماعة والاخوة التي ينتمي اليها لخدمة الكلمة وتحقيق الملكوت الأرضي.

إخيراً، الاختيار والتمييز يساعدان المدعو على إكتشاف وإدراك ذاته، وإستيعاب قدراته ومدى تأثيره وتأثره على الجماعة أو الحياة المشتركة، فعلى المدعو أن يتحاور ويتساءل مع نفسه من أنا ولماذا دعاني الرب؟ وماذا يريد مني؟ وعن أي شيء أبحث؟ وماذا ينبغي أن أفعل؟

الدعوة والبيئة الملائمة

في إنجيل يوحنا نقرأ “هُوَذَا حَمَلُ اللهِ”، وتشير شهادة يوحنا المعمدان هنا الى يسوع قائلاً: “وَفِي الْغَدِ أَيْضًا كَانَ يُوحَنَّا وَاقِفًا هُوَ وَاثْنَانِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، فَنَظَرَ إِلَى يَسُوعَ مَاشِيًا، فَقَالَ: «هُوَذَا حَمَلُ اللهِ!». فَسَمِعَهُ التِّلْمِيذَانِ يَتَكَلَّمُ، فَتَبِعَا يَسُوعَ. فَالْتَفَتَ يَسُوعُ وَنَظَرَهُمَا يَتْبَعَانِ، فَقَالَ لَهُمَا: «مَاذَا تَطْلُبَانِ؟» فَقَالاَ: «رَبِّي، الَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا مُعَلِّمُ، أَيْنَ تَمْكُثُ؟» فَقَالَ لَهُمَا: «تَعَالَيَا وَانْظُرَا». فَأَتَيَا وَنَظَرَا أَيْنَ كَانَ يَمْكُثُ، وَمَكَثَا عِنْدَهُ ذلِكَ الْيَوْمَ. وَكَانَ نَحْوَ السَّاعَةِ الْعَاشِرَةِ” (يو1: 35-39) تعالا وأنظرا تعني إتبعاني واختبرا حياتي وأمكثا معي حيث أقيم.

الدعوة مرتبطة بالإقامة والمرافقة المتواصلة وعيش الأفخارستيا والجلوس عند قدمي يسوع للأصغاء إلى تعاليمه وأحكامه والعمل في كرمه بفرح وتواضع وخدمة مجانيّة. هناك علاقة متينة بين الدعوة والبيئة المنشئة روحيًا وإنسانيًا وثقافيًا التي تحتضن الدعوة وتنميها وتثبتها كالأرض الخصبة التي تنبت فيها البذور وتصير أشجارًا وتعطي ثمارًا طيبة، فحيث تكون المحبة الصادقة هناك يكون مسكن الله، وهكذا تقّدم الجماعة الرهبانيّة أو الاكليريكيّة والجماعات المكرسة، شهادة حية بعيشهم ملكوت الله المصغر على الأرض.

هذه الشهادة لا تعطى إلا من خلال الصلاة والعمل وعيش التطويبات والمشورات الإنجيليّة والتبشير، فالأولوية هي للصلاة والتأمل والشركة والمقاسمة على مثال الجماعة المسيحية الأولى والذين كان كل شيء مشتركًا بينهم ” وَكَانُوا يُواظِبُونَ عَلَى تَعْلِيمِ الرُّسُلِ، وَالشَّرِكَةِ، وَكَسْرِ الْخُبْزِ، وَالصَّلَوَاتِ” (اع2: 42) فالبيئة الملائمة تعني مفهوم الجسد الواحد لأعضاء كثيرة تربطهم المحبة وينعشهم ويثبتهم الروح القدس، كمادة السمنت التي تمسك وتثبت احجار البناء. “أَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْجَسَدَ هُوَ وَاحِدٌ وَلَهُ أَعْضَاءٌ كَثِيرَةٌ، وَكُلُّ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا كَانَتْ كَثِيرَةً هِيَ جَسَدٌ وَاحِدٌ، كَذلِكَ الْمَسِيحُ أَيْضًا” (1كو12: 12) فالبناء الروحي والإنساني والثقافي وتقوية أواصر المحبة الأخويّة، من خلال التواصل والمرافقة الروحيّة والنفسيّة والاصغاء والحوار والشركة والمقاسمة وبناء جسور الثقة ومواجهة كل التحديات والصعوبات بطرق وأساليب رهبانيّة هي من أهم خصائص لإكتشاف الحياة الرهبانيّة.

الخاتمة

 الغاية من هذا المقال هو لمراجعة شاملة وإعادة التنظيم والنظر الى كل الأحداث والتحديات على كافة المستويات، وتفعيل الكاريزما وروحانيّة مؤسسي الحياة المكرسة والجمعيات والمؤسسات الدينيّة، لأننا نواجه صعوبات وأخطار كثيرة ومنها أزمة الدعوات الكهنوتيّة والرهبانيّة، ولأسباب عديدة منها الهجرة وعدم الإستقرار ومنها ظهور البدع والأفكار الغريبة والرؤية الغير واضحة للمستقبل المسيحي، لهذا ما نحتاجه اليوم هو تكاثف الجهود والنوايا الطيبة، والعمل المشترك وتسخير كل الطاقات والمؤهلات.

أخيراً ما نحتاجه هو الصلاة والتأمل وروح التواضع والخدمة بمحبة وفرح، مستوحاة من روحيّة أبائنا المشرقين.

الأب دنخا عيسى الراهب