مقدّمة

تواجه الحياة المكرّسة اليوم أكثر من أي وقت مضى في تاريخها نقدًا وأسئلةً حول مفهومها ودورها في مجتمع مطبوع بالتغيير والتطوّر السريع في كلّ المجالات وخاصّة في مجال العولمة والتكنولوجيا ووسائل الاتصال والتواصل. إنّ وضع الحياة المكرّسة اليوم واضحٌ جدًا لكم جميعًا. فكلُّ منّا يعرف جيدًّا السياق الثقافي والاجتماعي والكنسي الذي يعيش ويعمل فيه. وبالتالي، فنحنُ نُدرك جيّدًا الإمكانات الكبيرة التي تستمر رهبناتنا في ضمانها لنمو ملكوت اللّٰه والاستجابة للاحتياجات العديدة لمؤمنينا. نَعرفُ أفضل من أيّ شخصٍ آخر نقاط ضعفنا، والجوانب الإشكالية والتحدّيات التي نواجهها كلّ يوم. هذه التساؤلات تدعونا من ناحية إلى التفكير في أسباب هٰذه الأزمات ومن ناحية أخرى، وعلى ضوء هٰذه الأسباب، إلى خلق آفاق جديدة تتيح للحياة المكرّسة أنْ تحافظ على نضارتها وحيويّتها و نضجها و نموها الروحي وتشدّ كلّ منّا إلى وعي أعمق لمسؤولياته تجاه تاريخ الخلاص بتجديد عهده. سنتطرّق اليوم إلى بعض المعايير ونستخدمها كمؤشرات لرحلتنا ونأمل أنْ تساعدنا على تعميق تجربتنا في الحياة المكرّسة وإرشادنا في اختيار الهدف الذي نريد الوصول إليه في المسار الذي يجب أنْ نسير فيه في هٰذه الأوقات.

تجنّب الدنيويّة الروحيّة

حذّرنا البابا فرانسيس منذ عدّة سنوات من “مرض” يعتبره خطيرًا للغاية بالنسبة للكنيسة بأكملها. إنّه مرض الدنيوية الروحيّة الذي، كما يقول، يجب عدم الخلط بينه وبين الدنيويّة الماديّة والدنيويّة الأخلاقية (واللّتان لا تغيبان تمامًا عن الحياة المكرّسة). حيث يتحدّث عن ذلك باسهاب في الإرشاد الرسولي “فرح الإنجيل” (عدد 93-97) على النحو التالي: الدنيويّة الروحيّة التّي تختبئ وراء مظاهر تديّنٍ أو حتّى حبّ الكنيسة، تقوم على البحث عن المجد البشري والرفاهيّة الشخصيّة، بدلاً من مجد الربّ. وهٰذا ما كان الربّ يؤنّب الفريسيين عليه: «كَيفَ تُؤمِنُونَ أَنْتُمْ الذين تَنالُونَ المَجَدَ مِنْ بَعْضِكُم البَعض، ولا تَطْلِبُونَ المَجَدَ الآتي من الإلهِ الواحد؟» (يو 5: 44). وهكذا بالحيلة يُبحث عن «مَا هُوَ لأَنفُسِهِم، لا مَا هُوَ للمَسيحِ يَسوع» (في 2: 21). الدنيويّة الروحيّة تتلبّس عدّة أشكال، وفق نمط الشخص والظروف الذي فيه تتغلغل. وبما أنّها مرتبطة بالتماس المظهر، فلا ترافقها دائمًا خطايا عامّة، بل ظاهريًّا يبدو كلّ شيء قويمًا لائقًا. لكنْ إذا اجتاحت الكنيسة، فلسوف تُوقع أهول الكوارث، أكثر من أيَ دنيويّة مجرّد أدبيّة1.

يصف البابا أيضًا بعض المواقف التي تنبع من هٰذه الاتجاهات، مثلًا: “الاهتمام المتباهى بليتورجيا وعقيدة ومكانة الكنيسة”، “سحر القدرة على إظهار مكاسب اجتماعية سياسية”، “المجد الباطل المرتبط بإدارة الأمور العملية”، “جاذبيّة نحو ديناميكيّات التقدير الذاتي”، “وظيفة إدارية محمّلة بالإحصاءات والتخطيط والتقييمات”…الخ. النتيجة: “فقدان الحماسة الإنجيلية، بل التمتع الزائف بالرضا الشخصي المتمركز حول الذات”2. لقد اعتدنا على الامتيازات، واعتدنا على اعتبار دعوتنا “مكتبًا”، أو الأسوأ من ذلك، “كرامةً” ونادرًا ما نسأل أنفسنا ما إذا كانت حياتنا متوافقة مع “شخصية” الخادم الذي يعطي الحياة حتى يعيش الآخرون. ممّا لا شكّ فيه أنّ كلمات البابا فرانسيس هٰذه تهمّ الكنيسة ككلّ، أو ربّما بُعدَها الهرمي، وليس هناك شكُّ في أنّه يتحدث عنها أيضًا بإشارة صريحة إلى الحياة المكرّسة، معتبرًا الدنيويّة الروحيّة “أخطر مشكلة في الحياة المكرّسة اليوم”.

من المدهش في الواقع أنْ نلاحظ أنّ الإشارة إلى هذه العقلية الدنيويّة التي يمكن أنْ تغزو الكنيسة وخاصّة الحياة المكرّسة موجودة في فكر البابا فرنسيس قبل بداية حبريته بوقت طويل. ففي سنة 2013، نشرت المجلة الإسبانية “Vida Religiosa” نصًا عن مداخلة في السينودس حول الحياة المكرّسة في أكتوبر 1994، للأسقف المساعد آنذاك لبوينس آيرس اليسوعي خورخي ماريا بيرغوليو، عن الخطر المتمثّل في اختزال الحياة المكرّسة إلى وظيفة حيث إنّ بدخول روح العالم في صميم انتماء الحياة المكرّسة إلى الكنيسة تتحوّل إلى وظيفة، فتحتل الوسائل مكان الغايات، فيهتم المرء بشكل مفرط بموهبة الفرد بغض النظر عن اندماجه الحقيقي في شعب اللّٰه المقدس، وأكثر من ذلك، عندما نستسلم للوظيفية نصبح مؤسسة. إذا غزت هٰذه الروحانيّة الدنيويّة الكنيسة وحاولت إفسادها من خلال مهاجمتها بمبادئها، فسيكون ذلك أكثر كارثية بلا حدود من أيّ دنيويّة أخلاقيّة أخرى، فإنّ الحياة المكرّسة بدلاً من أن تكون “هبة من الروح القدس للكنيسة”، ينتهي بها الأمر إلى أنْ تكون قطعة في متحف، منغلقة على نفسها وغير قادرة على خدمة الكنيسة3.

إنّ دعوة الأشخاص المكرّسين إلى التماس ملكوت اللّٰه قبل أيّ شيء آخر هي أولاً نداء إلى التوبة الكاملة، والتجرّد من الذات للعيش كليًّا في الرب، فيصير اللّٰه كلاًّ في الكلّ. المكرّسون المدعوّون إلى تأمّل وجه المسيح المتجلّي ليكونوا له شهودًا هم مدعوّون أيضًا إلى حياة “متجلّية”4. إنّ تباعة يسوع هي مبادرة إلهية (دعوة التلاميذ مر 1: 14-20؛ مت 4: 18-22؛ لو 5: 1-11؛ يو 1: 38-51). بدوره القديس بولس، يؤكّد أنّ ارتداده أتى نتيجة دعوة إلهية خاصّة «فأُعلِمُكم، أيُّها الإِخوَة، بأنَّ البِشارةَ الَّتي بَشَّرتُ بِها لَيْسَت على سُنّةِ البَشَر، لأَنّي ما تَلَقَّيتُها ولا أَخَذتُها عن إِنسانٍ، بَلْ بِوَحْيٍ مِن يَسوعَ المسيح…. لَمَّا حَسُنَ لَدى اللّٰه الَّذي أَفرَدَني، مُذ كُنتُ في بَطنِ أُمّي، وَدَعاني بِنِعْمَتِه، أنْ يَكْشِفَ لي ابنَهُ لأُبَشّر بِهِ بَيْنَ الوَثَنيّينَ» (غلا 1: 11-12؛ 15-16).

من الواضح أنّ هذه الحياة المتمركزة في اللّٰه وفي العطاء للآخرين هي “ثقافة مضادة”، إنّها تقف كعلامة ضدّ القيمة المطلقة للاستهلاكية والمادية، وضدّ مذهب المتعة وعبادة الجسد، وضدّ الفردية وأيّ شكلٍ من أشكال الاستبداد. نحن نعيش في سياق تاريخي وثقافي واجتماعي لا تُقدَّر فيه المشورات الإنجيليّة ولا تُفهم، حيثُ تعتبر غير إنسانيّة، والمسؤولة عن بناء أشخاص غير ناضجين وغير محققين لذواتهم؛ أي أنّها شيء يجب التخلص منه. فالطاعة مثلاً، لا تتّفق مع الحقوق الأساسية للإنسان، وحرّية اتّخاذ القرار بنفسه، وتحقيق ذاته. يُنظر إلى العفة على أنّها حرمان من خير الزواج، التخلّي عن وجود شخص تشاركه الأوقات الجيّدة والسيّئة، الأفراح والأحزان، النجاحات وإخفاقات الحياة؛ التخلّي عن حنان الأبوة أو الأمومة. في عالم اتّخذ من الرفاه والاستهلاك قيمه العليا، يُنظر إلى الفقر على أنّه شرٌّ يجب هزيمته، شرٌّ يجب التخلص منه، والبحث عن أشكال حياة برجوازية واستهلاكية. وهٰذا يجعلنا غير قادرين على خدمة الأشدّ احتياجًا.

ممّا لا شكّ فيه، أنّ هٰذا السياق الاجتماعي والثقافي يؤثّر على الحياة المكرّسة ويضعها في موقف حرج يتجلّى في أعراض مختلفة، بعضها يُنذر بالخطر: انخفاض في عدد الدعوات، الذي غالبًا ما يعود لغياب حماس رسولي مُعدِ في الجماعات التي تفتقر هكذا للاندفاع ولا تكون جذّابة5؛ ناهيك عن شيخوخة الأعضاء، بالمقارنة مع زيادة حجم المؤسسات يؤدي إلى نشاط شخصي مُرهق أحيانًا للأشخاص المسؤولين عن الأعمال؛ إضعاف الحياة الجماعيّة والروحيّة؛ المشاكل الاقتصادية المتكررة، والاهتمام بمستقبل غير واضح. بالنسبة للبعض، الشكل الحالي للحياة المكرّسة آخذٌ إلى الزوال، بالنسبة لآخرين، فهو يعاني من “فقر الدم” الإنجيلي المترجم إلى القليل من العاطفة والقناعة المؤديّة إلى الإحباط وخيبة الأمل.

يكمن الخوف الأكبر في خطر دخول الروح الدنيويّة بقوة إلى حياة الأفراد والجماعات الرهبانيّة حيث يصبح هو القائد والموجّه، وبالتالي لا يعود للّٰه مكانًا في حياتنا، فتضحى الأنا هي المنطلق والمحور والهدف، فتجدنا نستخدم الأشخاص للحصول على الأشياء في سبيل اشباع نهمنا، بدلاً من أنْ نستعمل الأشياء في سبيل خير الأشخاص وسعادتهم، وبدل العطاء والبذل نسعى للتملّك، وبدل الخدمة والطاعة نهوى السلطة، وبدل التعفّف والتجرّد نميل إلى حب الاقتناء وعبادة الذات. وفي هٰذا الصدد، يشير البابا يوحنا بولس الثاني إلى ثلاثة تحدّيات تواجهها الحياة المكرّسة: “المهمة النبوية في الحياة المكرّسة تواجه ثلاثة تحديّات رئيسة تمسُّ الكنيسة نفسها؛ إنها تحدّيات كلّ زمان يقذفها المجتمع المعاصر في شكلٍ حديثٍ وبمزيدٍ من الجذرية أحيانًا، أقله في بعض أجزاء العالم. إنها تتناول مباشرة المشورات الإنجيليّة في الفقر والعفة والطاعة”6. تتمثّل هذه التحدّيات في: تحدّيات ذات طبيعة اجتماعية “نزعة ماديّة إلى التملّك“، تحدّيات ذات طبيعة جسديّة “شهوة أو ثقافة التمتّع” وتحدّيات ذات طبيعة نفسيّة “عبادة القوة“. ثالوث الشهوات الذي يميّز التاريخ وهو أصل الشرور الحالية7.

  يمكننا أنْ نتساءل بجديّة عمّا إذا كانت الأزمة الحاليّة التي نعيشها مرتبطة بهٰذه الكلمات القوية للبابا فرنسيس:

  • في حياتنا الرسوليّة، هل نفضّل البقاء في المناطق الأكثر شهرة والأكثر أمانًا لنا، أمّ أنّ لدينا الشجاعة للمخاطرة بأشكال جديدة لتجسيد رسالة carisma رهبنتنا؟
  • هل نعتمد أكثر على كفاءاتنا الاقتصادية وحساباتنا المصرفية، أم على عناية الآب؟
  • هل تُنظّم حياتنا الديريّة من خلال التقيّد الصارم بقواعد وتقاليد الماضي المجيد، أم أنّنا نستمع إلى ما يطلبه الروح القدس منّا اليوم، والاستماع إلى صوت الشباب الذين  يعيشون معنا؟
  • هل نمارس السلطة كشكل من أشكال القوة والسيطرة على الإخوة والأخوات، أم وفقًا للروح الإنجيليّة للخدمة المتواضعة وغير الأنانية؟

إنّ ما نعيشه اليوم، كما قال البابا فرنسيس في مناسبة أخرى، هو شكل من أشكال التسوية أو بالأحرى “الاختلاط بين روح العالم وروح اللّٰه”8: بينما نواصل إعلان اختيارنا الحصري للّٰه وملكوته كمعيار يوجّه حياتنا وخياراتنا الرسولية، فإنّنا في الواقع نمتص طرق التفكير والتصرف الأكثر ملاءمة لثقافة وعقلية العالم. إنه ليس شيئًا يحدث فجأة، كرفض صريح للمعايير الإنجيليّة، ولكنّه عملية بطيئة وربما قليلة الإدراك، “حيث يترك المرء نفسه تنزلق ببطء كما يحدث عندما يكون تحت تأثير التخدير، دون أنْ يُدرك ذلك، فتُصبح الأمور نسبيّة وتضيع الأمانة للّٰه”9. وهكذا فإنّ ملح الحياة المكرّسة يذوب ويفقد نكهته، وتتضاءل القوة النبويّة لوجودنا في المجتمع؛ ربما نواصل تنفيذ خدماتنا وأعمالنا، غالبًا بتفانٍ وتضحية كبيرين، لكنّنا نفقد المعنى وبالتالي نفقد قدرتنا على الجذب، مع خطر أنْ نُصبح كمثلِ”قُوّاد جيوش مهزومة”، أو ببساطة نتحوّل إلى “منظّمات خيريّة لأعمال الرحمة”10. أعتقد أنّ “العلاجات” التي اقترحها البابا فرنسيس لهٰذا الشكل من الدنيوية صالحة أيضًا بالنسبة لنا كمكرسين: “يجب أنْ نتجنّبها من خلال وضع الكنيسة في حركة انطلاق خارجًا عن الذات، وفي حركة إرسالية مركّزة على يسوع المسيح، والتزام نحو الفقراء… تُعالج باستنشاق هواء الروح القدس النقي، الذي يُحرّرنا من المكوث متقوقعين على ذواتنا، مُختبئين وراء ظاهر ديني خالٍ من اللّٰه”11.

روحانية الشِرْكة

دخلنا فعليًّا في الألفيّة الجديدة من حياة الكنيسة قبل أكثر من عقدين من الزمن، فإن الأوضاع التي نعيشها اليوم تطرح تحدّيات جديدة يصعب علينا أحيانًا فهمها: تغيير حقبة حقيقي يتطلّب منّا جميعًا فهمًا جديدًا لما يحدث وطرقًا جديدة لاقتراح الإنجيل كإجابة على المشاكل التي نواجهها، وأنْ نعيشها كتحدّيات وليس كعقبات12. منذ مطلع الألفيّة، بالتحديد في سنة 2001، كتب البابا القديس يوحنّا بولس الثاني أنّ روحانيّة الشِرْكة هي التحدّي الأكبر الذي يواجهنا. روحانية الشِرْكة تعني قبل كلّ شيء نظرة القلب إلى سرّ الثالوث الذي يسكن فينا، فينعكس نوره من خلالنا كجماعة لنُصبح مرآة له: أنْ نشعر بالأخ، الذي يُشاركنا في الجسد السرّي الذي رأسه هو المسيح، بصفته “شخصًا ينتمي لنا”، لمعرفة كيفية مشاركة أفراحه وآلامه، وفهم رغباته ورعاية احتياجاته، لتوفير صداقة حقيقية وعميقة له. روحانيّة الشِرْكة هي أيضًا القدرة على رؤية ما هو إيجابي في الآخر قبل كلّ شيء، والترحيب به وتقديره كهدية من اللّٰه “الآخر هو موضوع نعمة لي”. أخيرًا، إنّ روحانيّة الشِرْكة هي معرفة كيفية “إفساح المجال للآخر”، وتحمّل أعباء بعضنا البعض (غل 6: 2)، ونبذ الإغراءات الأنانيّة التي تقوضنا باستمرار وتولّد المنافسة والوصوليّة وعدم الثقة والغيرة13.

وفي هٰذا الصدد، يُشير البابا فرنسيس، في إرشاده “فرح الإنجيل” إلى التجارب التي يتعرّض لها المكرّسون ومنها: الفردانيّة، أزمة هويّة وانخفاض في الورع، ويصفها بالأضرار التي يُغذّي بعضها بعضًا14. حيث تتّسم حياة العديد من المكرّسين اليوم بنوع من الفردانيّة وانخفاض الحماس وعدم الانخراط في الحياة الجماعيّة، ممّا يدفع بهم إلى خلق عالم خاص بهم. هٰذه الفردانيّة تؤدي غالبّا إلى الأنانيّة، والعكس بالعكس، وكلاهما يؤدّيان إلى الحسد والغيرة، وهي تنافي فضائل الحياة المكرّسة من محبّة وتبادل وعطاء. وكنتيجة حتميّة لكلّ ما سبق، نعيش في أجواء من الحقد، الانقسام، النميمة، التشهير، الثأر، الحسد، والرغبة في فرض الآراء الخاصّة15. فمن نُريد أنْ نُبشّر بالإنجيل، بمثلِ هٰذه التصرّفات؟ وكيف نكون “علامات تناقض” في العالم الذي يتبع منطقًا مستوحى من المادية، الأنانية والفردانية؟ أضِف إلى ذلكَ، أنَّ إخفاقَ بعضِ المكرّسينَ والمُكرَّسات من كهنةٍ ورهبان وراهبات، يجعل البعض ينفرون من فكرة التكرُّس. هٰذا طبيعي. ولا ننسَ أنّ الإعلام في الآونة الأخيرة قد أمعن في تشويه صورة المكرّسين والمكرّسات.

فقدان عنصر الجاذبية

الانجذاب هو شعور داخلي يتملّك الإنسان ويقوده إلى مصدر الجذب. هٰذا المصدر يُحرّك القلب والكيان، ويترك الانطباع لدى المنجذب إليه، أنّ جماله هو قيمة وخير ثمين يطمح إليهما في عمق أعماق رغباته وأشواقه ووجدانه. لذلك يترك كلّ شيء ويتبعه لكي يبلغ معه إلى ملء الكمال. إلى جانب كون الدعوة العامّة أو الخاصّة هي نداء حرّ من اللّٰه من أجل “أنْ يرفع البشر ليُشركهم في حياته الإلهية”16، فهي أيضًا جواب حرّ من قبل الإنسان، الأمر الذي يتجلّى واضحًا في تعاليم يسوع:

  • الابن الضال: لمْ يمنع الأب ابنه الأصغر أنْ يترك البيت، ولمْ يرفضه عندما عاد، إنّما استقبله بحرارة (لو 15: 11-32).
  • الشاب الغني: طلب إليه أنْ يترك كلّ شيء ويعطيه للفقراء ويتبعه، لمْ يفرض عليه اتّباعه، بل تركه ليمضي ولو حزينًا (مر 10: 17-22).
  • حوار بطرس الأخير مع يسوع «أتُحِبّني أكثر من هؤلاء؟ نعم، يا رب، أنت تعلم ذلك، إذًا اتبعني» (يو 21: 15-19)، ليس إلا انعكاسًا لهٰذه الحرّيّة المبنيّة على المحبّة.

لعلّ أهم ما يميّز هٰذا الجواب الحرّ، أنّه لا يخلو أبدًا من عنصر الجاذبية:

  • اندراوس وفيلبس: اندراوس بعد سماعه لكلمات يوحنّا «هٰذا هُوَ حَمَلُ اللّٰه»، قضى مع يسوع نهارًا كاملاً، جذبته شخصيته وأتى إليه بسمعان أخوه (يو 1: 36-42). فيلبس أتى إليه بنثنائيل قائلاً له «الّذي كَتَبَ في شأنِهِ موسى في الشّريعَةِ وذَكَرَه الأنبياء، وَجَدْناهُ، وهُوَ يسوع ابنُ يوسُفَ مِنَ النّاصِرة» (يو 1: 45).
  • بطرس: الذي رافق يسوع في مختلف أسفاره، وشهد لمعجزاته، وانجذب بتعالييمه «يا رَبّ إلى مَنْ نَذْهّب وكَلامُ الحَياةِ الأبَدِيّة عِندَكَ» (يو 6: 68).
  • شاول (بولس): بلغ به الحبّ والانجذاب لشخص يسوع حتّى قال: «الْحَيَاةُ عِنْدِي هِيَ المَسِيحُ، وَالمَوتُ رِبْحُ لِي» (في 1: 21).

وفي هٰذا الصدد بيّن البابا يوحنّا بولس الثاني أنّ جوهر التكرّس، أو بالأحرى القاعدة الأساسيّة له، هو الانجذاب إلى العيش مع يسوع “فما أجمل أن نلبث معك، وأن نهديك حياتنا، ونركّز عليك، حصراً، كل وجودنا. والواقع أنّ من حظي بنعمة هٰذه الشِرْكة التي تربطه بالمسيح برباط حبّ مميّز، ينبهر لسناها. فهو «أجمل بني البشر» (مز 45/أو 44/3) الذي لا يشبهه إنسان17. فالحياة المكرّسة القائمة على الانجذاب بشخص يسوع، تُصبح بدورها، أداة جذب للآخرين نحو حياة الملكوت “بفضل اعتناق المشورات الإنجيلية، تُصبح ملامح يسوع الممّيزة – العفّة والفقر والطاعة – “مرئية” وسط العالم، بوجه مثالي ودائم، تلفت أنظار المؤمنين وتدعوهم إلى الرجوع إلى سرّ ملكوت اللّٰه”18. إنّ دعوة يسوع: «تعَالَيَا وَانْظُرَا» (يو 1: 39) لا تزال حتّى اليوم هي القاعدة الذهبية في رعاية الدعوات. فعلى مثال المؤسِّسين والمؤسِّسات، لابدّ من استعمال هٰذه القاعدة لإظهار قدرة الرب يسوع على اجتذاب النفوس، وجمال وهب الذات كاملة من أجل الإنجيل. فأوّل مهمّة يقوم بها كلّ المكرَّسين وكل المكرَّسات هي التشجيع، بالكلام والمثال، على اعتناق هدف اتّباع المسيح، والعمل بعد ذلك على ترسيخ الجواب، في قلوب المدعوين، لنداءات الروح19. فالدعوة إذن، هي فعل نداء من الربّ يجذب به المدعوّين، ولكن هي أيضًا ثمرة تجاوب الحياة المكرّسة مع هٰذا النداء، والشهادة له، بحيث تُصبِح علامة حيّة وظاهرة لقوة الجذب الإلهي، وبالتالي مصدر انجذاب لمن اختارهم الربّ ليكمّلوا المسيرة. يجعلنا التكريس أناسًا وهبوا أنفسهم للّٰه دون شروط، لنكون “ذكرى حيّة لطريقة يسوع في الوجود والعمل” مطيعين، فقراء وعفيفين. بالتكريس نتحوّل إلى علامة لمحبّة اللّٰه  ونعمته للبشرية. جاء يسوع ليعطينا اللّٰه ومحبته، هٰذه هي البشرى السارة! اللّٰه هو أوّل ما يمكننا أنْ نُعطيه للبشرية، هٰذا هو الأمل الكبير الذي يمكننا أنْ نقدّمه. إنها نبوّتنا الأولى.

خاتمة

هل تتّحد طريقتنا في الوجود مع منطق خادم يهوه المتألم. من واجبنا أنْ نسأل أنفسنا بصدق وتواضع إذا كانت حياتنا وأنشطتنا مُنظّمة وفقًا لمبادئ الفعالية والفائدة، المناسبة لهٰذا المنطق، منطق “الثقافة المضادة” لنشهد عن الحبّ غير المشروط الذي قدّمه لنا يسوع، كما يقول غلبرت كيث تشيسترتون إنّ كل جيل يُنقذه القديس الذي يناقضه أكثر من غيره. نحن مدعوون لإجراء مراجعة صادقة للمعايير التي نبني عليها ونُنظّم أنشطتنا: فهل ما يهمّنا هو جعلها فعالة ومنتجة فقط؟ هل نحن على استعداد لتجسيد منطق المجانيّة، حتى لو كان ينطوي على مخاطر الفشل؟ هل نؤمن أنّه في اختبار “الفشل” يظهر اللّٰه نفسه بطريقة مميزة؟ دعونا لا ننسى أنّ موت الرب على الصليب كان فشلًا حقيقيًّا في نظر العالم ولكنّه التعبير الأكمل لحبّ اللّٰه الذي يلتقي بنا من خلال تقدمة يسوع. نحن مدعوون في هٰذا اليوم إلى أنْ نتغذّى منه ونشهد له. لابدَّ إذن من أنْ نواجه ظروف الافتقار الجديدة بطمأنينة من يعلم أنّ ما يُطلب منه إنما هو التزام الأمانة أكثر من التمسّك بالنجاح20. هٰذا الحبّ يجب أنْ ينعكس في حياتنا الجماعيّة «أُعْطِيكُمْ وَصِيَّةً جَدِيدَةً: أَحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا، كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَحِبُّوا أَنْتُمْ أَيْضًا بَعْضُكُمْ بَعْضًا. إِذَا أَحَبَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا عَرِفَ النّاسُ جَمْيعًا أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي» (يو 13: 34-35). هٰذه المحبّة التي تجلّت في حياة الجماعة المسيحيّة الأولى جذبت آخرين للانتماء إليها «يُلاَزِمُونَ الهَيْكَلْ كُلَّ يَوْمٍ بِقَلْبٍ وَاحِدٍ، وَيَكْسِرُونَ الخُبْزَ فِي البِيُوتِ، وَيَتَناوَلُونَ الطَعَامَ بِابْتِهَاج وَسَلامَةٍ قَلْبٍ، يُسَبِّحُونَ اللّٰه وَيَنالُونَ حَظْوَةً عِنْدَ الشَعْبِ كُلَّهُ. وَكَانَ الرَبُّ كُلَّ يَوْمٍ يَضُمُّ إِلَى الجَمَاعَةِ أُولَئِكَ الذين يَنَالُونَ الخَلَاص» (أع 2: 46-47). ذلك يتمّ من خلال الرجوع إلى يسوع، الرجوع إلى الإنجيل، الرجوع إلى كلمة اللّٰه. إنها تأتي من الروح وتتوافق مع آلام المسيح والبشرية. إنّها تتطلّب خلق ودعم أناس متسقين، رجال ونساء يتميزون بواقع الإنجيل، منغمسين في روح اللّٰه، جماعات حيّة ومرسلين، مجتمعات بسيطة ومنفتحة. فلذلك ستتأثر هٰذه المجتمعات والأشخاص بالحماسة التبشيرية. يجب أنْ نكون نارًا تُشعِل نيرانًا أخرى و “تضيء القلب”. أنْ نكون مع المسيح يعني دائمًا الحفاظ على شعلة حب حيّة مشتعلة في القلب، تتغذّى باستمرار على الإيمان، ليس فقط عندما يجلب معه الفرح الداخلي، وإنّما أيضًا عندما يكون محفوفًا بالصعوبات والجفاف والألم21.

يرافقنا البابا فرنسيس في زمن الألم والصعوبة هٰذا، إذْ يشدّد على أمرين مهمّين ويصفهما على أنّهما عمودي الحياة الروحيّة:  يتعلّق الأوّل بروح الامتنان، وبالتالي فإن الكهنة والمكرسين مدعوون ليجدوا فرح دعوتهم وينشروه على الدوام. فالفرح ينبع من قلب مُمتن. صحيح أنّنا نلنا الكثير من النِعَم والبركات ونحن نفرح بهٰذا الأمر، إذْ سيساعدنا على أنْ نستعرض حياتنا مع نعمة الذاكرة؛ ذكرى تلك الدعوة الأولى، ذكرى المسيرة التي اتّخذناها، وذكرى النِعَم التي نلناها، ولاسيما ذكرى لقائنا بيسوع المسيح في مراحل عديدة خلال مسيرتنا، وذكرى الدهشة التي ولّدها هٰذا اللقاء في قلبنا. لنطلب إذًا نعمة الذكرى لنُنمّي فينا روح الامتنان. أما الثاني فيتعلّق بروح العمل. إنّ القلب الممتن يندفع تلقائيًّا لخدمة الرب واتّخاذ أسلوب حياة عاملة، فعندما نتيقّن لما منحنا اللّٰه إياه تصبح مسيرة التخلّي عن أنفسنا لنعمل من أجله ومن أجل الآخرين دربًا مميّزة للإجابة على محبّته العظمى، لكننا نعرف جيّدًا كم هو سهل أنْ يتمّ خنق روح العمل السخي والتضحية هٰذا. هناك أسلوبان ليُصار إلى هٰذا الخنق وكلاهما مثال “لروحانية العالم” التي تضعفنا في مسيرتنا كرجال ونساء مكرّسين وفي مسيرة الخدمة وتحطُّ من قيمة دهشة اللقاء الأوّل مع يسوع المسيح. يمكننا أنْ ننخدع في قياس جهودنا الرسوليّة بمقاييس الفعّاليّة والأداء الوظيفي والنجاح الخارجي الذي يسيطر على عالم الأعمال، ولكنّ القيمة الحقيقيّة لعملنا الرسولي تُقاس بقيمته في عيني اللّٰه. ينبغي علينا أنْ ننظر للأمور ونقيّمها بحسب منظار اللّٰه الذي يدعونا إلى ارتداد مستمرّ وتواضع كبير. إنّ الصليب يُظهر لنا أسلوبًا مختلفًا في قياس النجاح: ينبغي علينا أنْ نزرع، واللّٰه هو الذي يرى ثمار أتعابنا، وإنْ لم تُثمر أتعابنا وأعمالنا أحيانًا لنتذكّر أنّنا نتبع يسوع المسيح وحياته، بحسب وجهة النظر البشريّة التي انتهت بفشل: فشل الصليب22. هٰذا يتجلّى بعلاقة حيويّة وعميقة مع الرب نُريد أنْ نتبعها بأسلوب حياة ورسالة نُكرّس أنفسنا لها بدوام كامل وبقلب ممتلئ. ستكون هٰذه “التقدمة” ممكنة وأصيلة ولن تُثمر إلا على أساس روحانيّة إنجيليّة عميقة تساعدنا على النضوج في جميع أبعاد حياتنا، روحانيّة قويّة، متجسّدة، ملتزمة، تتغذّى من الإفخارستيا، بالصلاة، من خلال الحياة الجماعيّة، كمدرسة قداسة حقيقيّة سواء في الحياة اليومية أو في الرسالة. العالم جذّابٌ لكنَّ جاذبيّته لا تفوقُ جاذبيّةَ يسوع. لذلكَ، من عرف الربَّ وأحبَّهُ، ومَن اتّقدت فيه الرغبة باتّباعه، لنْ يتردّد في التخلّي عن مُغريات هٰذا العالم والمضيِّ في سبيله. وحدهُ اتّباع يسوع، يُعطينا فرحًا حقيقيًّا لن يزول.

الهوامش:

  1. البابا فرنسيس، الارشاد الرسولي فرح الإنجيل، عدد 93، 2013.
  2. البابا فرنسيس، الارشاد الرسولي فرح الإنجيل، عدد 95، 2013.
  3. J. M. BERGOGLIO, Intervento al Sinodo sulla vita consacrata e la sua missione nella Chiesa e nel mondo, XVI Congregazione generale, 13 ottobre 1994, nn. 12-13, riportato in. “Vita consacrata” n. 50, 2014/1.
  4. البابا يوحنا بولس الثاني، ارشاد رسولي في الحياة المكرّسة، عدد 35، 1996.
  5. رسالة البابا فرنسيس بمناسبة اليوم الإرسالي العالمي 2014.
  6. البابا يوحنا بولس الثاني، ارشاد رسولي في الحياة المكرّسة، عدد 87، 1996.
  7. Congregazione per gli Istituti di Vita Consacrata e le Società di Vita Apostolica. Ripartire da cristo: Un rinnovato impegno della vita consacrata nel terzo millennio, 45, 2002
  8. FRANCESCO, Omelia a S. Marta, 13 ottobre 2017. 
  9. FRANCESCO, Omelia a S. Marta, 13 febbraio 2020. 
  10. FRANCESCO, Omelia della Santa Messa con i Cardinali nella Cappella Sistina, 14 marzo 2013. 
  11. البابا فرنسيس، الارشاد الرسولي فرح الإنجيل، عدد 97، 2013.
  12. FRANCESCO, Discorso al V Convegno nazionale della Chiesa italiana, Firenze, 10 novembre 2015.
  13. GIOVANNI PAOLO II, Lettera Apostolica “Novo Millennio Ineunte, 43, 2001.
  14. البابا فرنسيس، الارشاد الرسولي فرح الإنجيل، عدد 78، 2013.
  15. البابا فرنسيس، الارشاد الرسولي فرح الإنجيل، عدد 100، 2013.
  16. الدستور العقائدي نور الأمم، عدد 2، 1964.
  17. البابا يوحنا بولس الثاني، ارشاد رسولي في الحياة المكرّسة، عدد 15، 1996.
  18. البابا يوحنا بولس الثاني، ارشاد رسولي في الحياة المكرّسة، عدد 1، 1996.
  19. البابا يوحنا بولس الثاني، ارشاد رسولي في الحياة المكرّسة، عدد 64، 1996.
  20. البابا يوحنا بولس الثاني، ارشاد رسولي في الحياة المكرّسة، عدد 63، 1996.
  21. Discorso di Papa Benedetto XVI ai superiori e superiore generali degli istituti di vita consacrata e delle società di vita apostolica, 22 maggio 2006.
  22. FRANCESCO, Omelia vespri con il clero, religiosi e religiose. Cattedrale di S. Patrizio, New York ,Giovedì, 24 settembre 2015.

الأب د. روني إسحق باكوس الراهب

يوم الحياة المكرّسة 2 شباط 2022

المجمّع العام للرهبنة الأنطونيّة الهرمزديّة الكلدانيّة