مقال نشر في مجلة ربّنوثا السنة السابعة – العدد 2 –  حزيران 2002

الفيلسوف يستين الشهيد (100ـ 165م)

كان من بلدة نابلس في فلسطين، وكانت نابلس مستعمرة رومانية أنشأها الأمبراطور سبسيان في اعقاب الحرب اليهودية عام (72)[1]. وعملاً بمبادئ ذلك الزمان في تبادل السكان لإستعباد الأوطان، جلب القيصر قوماً من الرومان وقدامى المحاربين وأسكنهم في المدينة الجديدة نابلس، ليكونوا فيها لروما عيوناً ساهرة في المنطقة فلم يكن يستين من بني اسرائيل كما يشهد هو لنفسه في مستهل حواره الأول، بل كان من اب على الشرك والوثنية، ولم يتعلم الآرامية السورية لغة المنطقة على الأطلاق، بل كان يتكلم كأهل المستعمرة اللغة اليونانية، وتثقف ثقافة عالية.

وكانت به رغبة شديدة في معرفة الحقيقة فطلبها في مدارس الفلسفة كلها. الواحدة بعد الأخرى. حتى اهتدى الى المسيحية فاطمأنت نفسه ومضى يبشر بها على انها الفلسفة الكبرى في الحياة. وجاء روما وأنشأ فيها مدرسة للفلسفة المسيحية، وفي غيرته الرسولية لدينه الجديد أقام حواراً مزدوجاً: الواحد مع الامميين (الوثنيين) في دفاعين رفعهما الى الأمبراطور ومجلس الشيوخ. والآخر مع أهل الكتاب اليهود الخصم الأول للمسيحية في المملكة الرومانية، في شخص تريفون أحد علمائهم. وإنها لمتعة بالغة: فلسفية أدبية دينية، مطالعة ذلك التراث العظيم الذي حفظه لنا التاريخ ـ ولا بد ان ننقل منه النبذة الوجيزة الآتية في الافخارستيا، أو سرّ القربان الأقدس، فيرى القارئ: ان ايماننا بالافخارستيا اليوم هو تماماً كإيمان المسيحيين الأولين به.

حقيقة الأفخارستيا وشروط التناول

ورد في الفصل 66 من الدفاع الأول ان: “هذا الطعام يسمى عندنا الأفخارستيا. ولا يحق لأحد الإشتراك فيه الاّ للمؤمن بحقيقة تعاليمنا، وكان معتمذاً بمعمودية مغفرة الخطايا والولادة الجديدة. ويسلك كما علّم المسيح، فإننا لا نتناوله كطعام عادي بل من حيث هو جسد، فإن كلمة الله يسوع المسيح مخلصنا اتخذ جسداً ودماً لأجل خلاصنا، هكذا الطعام المقدس -بكلام صلاة هو منه، هو طعام تتغذى منه أجسادنا ودمنا لأجل التجديد- هو جسد ودم يسوع الذي صار جسداً، انهم هكذا علمونا: فإن الرسل، في مذكراتهم المسماة أناجيل؛ انهم هكذا أمروا: (أخذ يسوع خبزاً وشكر قائلاً: “اعملوا هذا لذكري، هذا هو جسدي”، وكذلك أخذ الكأس وشكر قائلاً: “هذا هو دمي”، ولهم وحدهم أعطاهم منه).

يبان من هذه الشهادة العريقة في القدم: امور واضحة عديدة: إن الأسم “افخارستيا” يطلق على صلاة التقديس وعلى القربان المقدس معاً، يتقدس بكلام الرب نفسه قوله:”بكلام صلاة هو منه يتقدس بكلام الرب نفسه لا بسواه”. فالدعاء الى الروح القدس حديثة على التقليد القديم لتفسير دور الروح القدس في التقديس، لا لبيان صيغة التقديس.

ثم ان القربان المقدس هو امتداد لسّر التجسد، فالجسد والدم اللذين اتخذهما كلمة الله في تجسده يقدمهما غذاءً لنا في قربانه والغاية من تناول القربان الإلهي هي “تجديد” الإنسان بالإتحاد بكلمة الله المتجسد من جديد في القربان، وهذا التعليم لا يقدمه يستين كأنه اجتهاد منه، بل يصرّح ببساطة انجيلية:”انهم هكذا علّمونا”. فهو تعليم موروث متواتر بالإجماع. وكما ان القربان المقدس هو تجديد وإمتداد لسّر التجسد، فهو كذلك تجديد وإمتداد لسّر الفداء.

وفي الفصل (41) من الحوار مع تريفون اليهودي: يصرّح يستين: بأن القربان المقدس هو ذكرى استشهاد المسيح: لقد أمرنا المسيح أن نقيم الافخارستيا “ذكرى الآلام التي تحملها لأجل جميع البشر الذين يتزكون في نفوسهم من كل خطيئة، لكي نشكر الله أيضاً على كونه خلق العالم وما فيه لأجل الإنسان وعلى كونه خلصنا من الشر الذي ولدنا فيه، وهزم نهائياً السلطات والقوات بالذي تألم على حسب مشيئته”.

ويصرّح كذلك ان الافخارستيا ذبيحة أيضاً:” ان الذبائح التي نقدمّها نحن الامم ( يريد المسيحيين من أصل وثني كما هو واضح من القرائن اللفظية والمعنوية) في كل مكان أي الخبز المقدس، وكذلك الكأس المقدسة، قد جاء الله على ذكرها من قبل، عندما قال إننا نحن نجده فيما أنتم تهينونه، ويضيف “كل الذبائح المقربة بهذا الإسم والتي أمر يسوع بأن نقربها، أي الذبائح التي يقربها المسيحيون في كل مكان على الأرض، بتقديس الخبز والكأس قد شهد الله من قبل بانها ترضية، فالصلوات والتشكرات (التي يريد بها الافخارستيا) ومعناها في الشكر، قد باتت بالاصطلاح المسيحي علماً للقربان الاقدس. التي يقدمها اناس أكفاء. هي وحدها الذبائح الكاملة، وهي وحدها المرضية لدى الله، وهو ما أجزم به أنا أيضاً (يقول يستين) انها الوحيدة التي تسلّم المسيحيون” بالسنة المتواترة تقديمها بإقامة ذكر الغذاء اليابس الندئ، حيث يحيون ذكرى الاستشهاد الذي عاناه لأجلهم ابن الله.

تلك هي الشهادة التي يعلنها الفيلسوف المسيحي، في النصف الأول من القرن الثاني الميلادي، لليهود وللامميين في سرّ القربان المقدس، انها الشهادة الكاملة ولم تزد عليها الدهور بشئ، ذلك هو الايمان المستقيم (الأرذثوكسي) الكاثوليكي عبر الزمان والمكان. فهو اليوم، في القرن الحادي والعشرين، لا زال كما كان في النصف الاول من القرن الثاني.

ترجمة: الأب حنا ججيكا


[1]  الحروب اليهودية هي حركة عصيان قام بها اليهود ضد الحكم الروماني سنة 66م واستمرت 4 سنوات وانتهت بخراب القدس سنة 70م على يد القائد طيطس ابن الامبراطور سبسيان… التحرير