مقال نشر في مجلة ربّنوثا السنة السابعة – العدد 3 – أيلول 2002

مرة ثانية نلتقي مع مكاريوس النهراني[1] الذي هو ليس فقط أبو الروحانيات المشرقيّة، بل لكونه شخصيّة تستحق التعرف عليها أكثر فأكثر، خاصة وإن كتاباته لم تترجم بعد إلى اللغة العربيّة. وقد نستطيع اعتبار خبرته الروحانيّة مثل كنز ثمين يُمكن لجميع المؤمنين الاستفادة منه دومًا.

وقد أردت أن أنقل إليكم نصًا بديعًا يُعبِّر فيه الروحاني مكاريوس عن ماهيّة المحور الأساسي لكل حياة مسيحيّة عميقة ألا وهو محور الاتحاد بالمسيح المتألم والقائم من بين الأموات:

“إن وجه الرَّب يظهر للنفس بشكلين[2]، أي مع آثار جراحه وبمجد نوره. فتشاهد النفس الآلام التي قاساها لأجلها وتشاهد أيضاً اللمعان الذي لا يُقارَن لمجد نوره الإلهي، وتتحوّل إلى هذه الصورة من مجد إلى مجد حسب فعل الرَّب الروح. وهكذا تتقدم حسب شكلَي وجه المسيح معاً، حسب شكل الآلام وشكل النور المجيد[3]“.

إنه لأمر بديهي أن خلفيّة هذا النص هي الرسالة الثانيّة لأهل قورنتس {3/18 و 4/6}:

(3/18) “نحن كلنا بوجوه مكشوفة، نرى مجد الرَّب كما في مرآة، ونتحوّل إلى تلك الصورة، من مجد إلى مجد، حسب فعل الرَّب الروح”.

(4/6) “لأن اللـه الـذي قـال: ليشرق من الظلمة نور، هو الذي أشرق في قلوبنا، لكي نستنير بمعرفة مجد الله، الذي هو على وجه المسيح”.                                                    

إن قراءة سريعة للنصين تبرز لنا العبارات المشتركة بينهما؛ على سبيل المثال “نـرى”، “نشاهد”، “نتحوّل” إلى هذه “الصورة”، “من مجد إلى مجد”، “حسب فعل الرَّب الروح”، و “مجد الرَّب على وجه المسيح”.

إذا ولابد أنكم قد لاحظتم أننا جمعنا بين الآية 18 من الفصل الثالث والآية 6 من الفصل الرابع لاتسامهما بأسلوب شعري خاص وتكامل منطقي من جهة المعنى، مما قد يشير إلى أنهما بيتان لنشيد واحد. وهذا يسنده أيضًا الإيقاع الخاص لكلمات النص الأصلي المؤلف باللغة اليونانيّة، وكذا الحال في الترجمة السريانيّة التي سنقرأها الآن:

وقد يندهش القارئ عندما يعلم أن هاتين الآيتين تكوّنان خلفيّة شبه مستمرة لمقالات مكاريوس كلها وللفكر الصوفي الخاص بالروحانيين المشرقيين. فمن النشيد القديم، مرورًا بالقديس بولس، ثم الروحانيات المشرقيّة، وصل إلينا ذلك المحور الروحي الكتابي الذي يجب علينا أن نعيشه إذا أردنا أن نتذوق شيئًا من سرّ الله.

والجدير بالذكر أن مكاريوس أضاف إلى نص 2 قور 3/18 و4/6 أن التحوّل إلى المسيح المنبعث “من مجد إلى مجد” يتماشى مع التحوّل أكثر فأكثر إلى المسيح المتألم. إن تعليم القديس بولس بخصوص الرَّبط الموجود بين الآلام والقيامة لشيء معروف، وجميعنا يتذكر بعضًا من عباراته مثل: “نحمل في أجسادنا كل حين موت المسيح لتظهر في أجسادنا حياة المسيح أيضًا”[4]؛ وهذا الظهور، ظهور حياة المسيح فينا باشتراكنا في قيامته، لا يقصره القديس بولس على ما سيحدث لنا وقت الموت النهائي والدخول إلى الحياة الأبديّة، بل إنه يكتب بصيغة الماضي أننا قمنا مع المسيح[5]. فبالنسبة إلى القديس بولس يوجد من هذه الحياة اتحاد بموت المسيح وقيامته أيضًا. ويضيف مكاريوس، وهو ينطلق من كوننا مشتركين في قيامة المسيح من الآن أننا، كلما تعمقنا في الاتحاد بالمسيح المنبعث، تعمقنا أكثر فأكثر وفي آن واحد بآلام يسوع الخلاصيّة. والاتحاد بالقيامة يظهر بخبرتنا لحرارة نفخة الروح القدس، والاتحاد بآلام المسيح يظهر بهبة ذواتنا بصورة أكثر فأكثر جذريّة.

إن هذا السر، سرّ التعمق في المجد والآلام معًا، هو أيضًا سرّ القدّاس، وخاصة القدّاس المشرقي الذي يركز في آن واحد على موت يسوع وقيامته. فإن القدّاس هو حضور “ذبيحة” يسوع التي هي موت وقيامة معًا، حسبما يشير إليه سفر الرؤيا: “رأيت.. حملاً قائـمًا كأنـه ذبيح”[6]. ليتنا نتقدم في كل قدّاس عن طريق التناول في تحوّلنا إلى المسيح من مجد إلى مجد ومن هبة الذات إلى هبة الذات.

الأخت نادرة خياط الكرمليّة


[1] عن مكاريوس النهراني راجع الأخت نادرة، مجلة نجم المشرق، العـدد 21، السنـة السادسة /1، ص 26.

[2] حرفياً: “بوجهين” ( én dusì prosōpois ).

[3] المجموعة 3 ، المقالة 3/3 ؛ نشرة  V. Desprez, Sources Chrétiennes, 275, Paris, 1980.

[4] 2 قور 4/ 10.

[5] راجع قولوسي 2/12.

[6] سفر الرؤيا 5/6 .