مقال نشر في مجلة ربّنوثا السنة السابعة – العدد 1 – آذار 2001

قد يستغرب القارئ لأني أعالج موضوع المحبة للمرة الثانية، لكني ارتأيت ذلك نظراً لما وردني من أصداء لِما كتبته عن المحبة الروحانية التي تستطيع أن تجعل المؤمن يحب جميع الناس دون مقابل.

من المؤكد أننا، أمام النصوص البديعة التي ذكرتها عن أقوال الروحانيين المشرقيّين أمثال يوحنا المتوحد وشمعون طيبوثة ويوسف حزايا وغيرهم، نقف مندهشين بعظمة محبتهم. ولكني واجهت اعتراضات من قبل بعض المؤمنين القائلين، باسم الواقعية، إن تلك المحبة الروحانية لا يُمكن أن تُعاش ولا يُمكن حتى التفكير بوجود مثل هذه المحبة الشاملة تجاه جميع الناس؛ وكما لو لم يسمعوا أبداً كلام المسيح الموجه لجميع تلاميذه: “إن أحببتم مَن يحبكم فأي فضل لكم؟ لأن الخاطئين أنفسهم يحبون مَن يحبهم[1] وما هو الأدهى والأصعب تقبله هو وجود مثل هذه الأفكار بين أناس، أقول مبدئياً عنهم، أنهم مؤمنون ملتزمون.

فباعتقادهم لا يُمكن أن تقام المحبة الإنجيلية إلا على صعيد الحب المتبادل، وكذلك الغفران والرحمة وهما من مقومات تلك المحبة، وإذا غفر أحد فذلك لأنه متأكد أنه سيُغفر له بدوره؛ فالمحبة المجانية لا وجود لها. وإن سئلوا:”لماذا لا يُمكن ممارسة المحبة المجانية؟“يأتي الجواب على الفور:”لا يُمكن“وانتهى الأمر. وإذا كررنا السؤال:لماذا لا يُمكن“يأتي الجـواب مقتضبـاً:”نحن بشر ولسنا الله.

وفعلاً قد لا تكون المحبة الإنجيلية، المجانية، لجميع الناس، من طبيعة البشر، بل إنها محبة زرعها الروح القدس في قلوب المؤمنين كما يذكر بولس الرسول:”لقد أُفيضَت محبة الله في قلوبنا بالروح القدس الذي وُهِبَ لنا[2] فبذور هذه المحبة موجودة فينا وإن لم تظهر بكل طاقتها إلا تدريجياً. فيجب على الأقل ألا ننفي إطلاقاً إمكانية ممارستها.

إن المحبة الإنجيلية، كما قلنا، لا تشمل فقط من هم في تماس معنا بل تشمل جميع البشر في العالم. وإذا ما أردنا ممارسة ذلك لن نستطيع إلا إذا “أعطانا الله قلبه“لنحب به، كما قال الأب ميشال كواست في كتابه الأيادي الضارعة. ولكي يحب قلبنا بالاتحاد مع قلب الله لا يسعنا إلا ممارسة الصلاة العميقة التي هي المفتاح الذي سيجعلنا نحب جميع الناس بمحبة، حتى وإن لم نستطيع تجسيد ذلك في الواقع العملي كما أردنا. فطبيعتنا الإنسانية لا تستطيع أن تحب جميع الناس على نفس المستوى وبنفس القوة. فهناك أناس ننفر منهم وأناس آخرون آذونا بحيث تبقى مشاعرنا مجروحة بصورة عميقة؛ غير أننا، على صعيد عمق نفسنا، يمكننا النظر نحو الله في الصلاة، ونحن نطلب من روحه القدوس أن يجعلنا نسيطر شيئاً فشيئاً على هذه المشاعر النفسية. وهذا ما يسميه الروحانيون”بالتجاوز“عن طريق رفع أرواحنا نحو الله. فالصلاة من أجل مضطهِدينا التي يطلبها المسيح في متى 5/45 هي دوماً في إمكانية روحنا، أي شخصيتنا العميقة، وإن كانت مشاعرنا النفسية لا تزال متسمة بالمشاعر الإنسانية المحضة. وقد نستطيع دوماً تجسيد هذا التجاوز الروحي، ولو بصورة محدودة، عن طريق ابتسامة لطيفة على شفتينا، حتى تجاه أناس لا نميل إليهم بصورة طبيعية غير أننا نعتبرهم مِن أحباء الله؛ أو عن طريق القيام اليومي ببعض الأعمال المجانية البسيطة نخدم الناس بها دون أن يعلموا. فهذه التجسدات الصغيرة والصلاة العميقة هي التي ستجعل بذور المحبة الإنجيلية تنمو في قلوبنا. وقد نصل إلى شيء من الحب الصافي الذي نشهده عند يوحنا الدالياثي، هذا الروحاني المشرقي العظيم  في القرن الثامن، عندما يكتب في إحدى رسائله الموجهة إلى صديق:

لماذا تضايقت في قلبك عند سماع كلمات الخصم هذه؟ أرأيت أحداً وقد لطخته الإهانات والشتائم وجعلته ممقوتاً؟ أو آخر جمّلته الجمل المزدانة وعظّمته كلمات التمجيد؟ من ذا الذي سيستطيع أن يعطيني فرحاً عظيماً كفرح مَن أُعلن نجساً وحقيراً، أمام العالم، من قبل شهود كذبة؟ لي رب حي! فلا أهمس ضدهم أمام أي إنسان، ولا أحتج أمام ربي أيضاً، بل إني أُصلي من أجلهم كما من أجل أصدقائي. إني أحبهم مثل الذين يعصبون جراحي. ومن فرح قلبي أصرخ:”كم أريد، إذا كان ذلك من المستطاع، أن تكرر الكائنات الخرساء نفسها السخرية التي تطاولني فأصبح ممقوتاً لدى كل إنسان، لكي تتنظف أعمالي السيئة بالأعمال السيئة! وكم لي أن أشكر طبيب الأنفس لأنه حضّر العصائب لشفاء جراح نفسي قبل أن تفسد وتتهيج! لك المجد، أيها الطبيب الحق الذي تداوي جراح الذين ضُرِبوا بالعلاجات الشافية – آمين! ولتكن رحمةُ نِعمَتك على الذين يُخبِرون عن فضائحي، وليكن رذاذ نداك على النَجِسين المتّهَمين آمين![3]

إن قراءة هذا النص قد تجعلنا في أول الأمر من جهة الذين يقولون أن المحبة الشاملة لجميع الناس ليست مطلوبة من كل مؤمن، نظراً إلى سمو أقوال يوحنا الدالياثي. فإنه لا يذكر فقط في هذا النص ضرورة محبة مضطهديه، بل إنه يفرح بالاضطهادات وحتى يشكر مَن يسببها له. غير أن هذه هي حالة مَن وصل مِن هذه الحياة إلى قمة المحبة الإنجيلية، وقد لا نصل إلى مثل هذه القمة ونحن في هذه الدنيا. ولكن علينا أن نبذل كل ما في وسعنا للصعود إليها. فالمحبة هي درب طويل وسنمتحن في نهاية مسيرتنا على جهودنا من أجلها، كما قال القديس يوحنا الصليب. ويمكننا أيضاً تشبيه السير في طريق المحبة بالسير في نهر كبير بواسطة مركب شراعي. فلننطلق بهذا المركب ولنحاول بكل ما نملك من قوة التجديف لكي نتوجه نحو البحر الواسع. وإذا خارت قوانا فلا نخف ولا نيأس، لأن نسمة الروح القدس موجودة دائماً خلف شراعنا.

الأخت نادرة خياط الكرملية


[1] لوقا 6/32 .

[2] رومة 5/5 .

[3] الرسالة 51 / 17-18 .